وجود الله تعالى بين الفطرة والدليل
الموضوع الحادى عشر
الاسس المحورية لوجوده تعالى |
ولعله قد اتضح لنا مما سلف ذكره الأساس المحوري في هذا الدليل ونقطة اللباب الذي يدور الدليل كله حولها. وهذه النقطة المحورية التي تعد نقطة اللباب في الدليل بأكمله هي القول بحدوث العالم، والعالم هو ما سوى الله عز وجل. وهذه النقطة المحورية مهما دار حولها من الخلاف، فإنها تبقى في النهاية ظاهرة واضحة يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها باستقراء الأحداث، وتتبع الكائنات من جواهر وأعراض ، أو من ذوات وصفات. ونقطة اللباب هذه تعتبر المحور الأساسي الذي يدور حوله كل استدلال من هذا النوع مهما اختلفت الأشكال، أو تلونت طريقة العرض لهذا الدليل. ففي الماضي كان هذا الدليل يعرض بطريقة مقننة تلتزم بشكل من أشكال المنطق الأرسطي، والقرآن الكريم قد عرض لهذا الدليل بطريقة شائعة بحيث يستطيع المرء على مختلف مستوياته أن ينتقل من مشاهدة مظاهر الكون إلى الانتقال إلى الإيمان بخالقه مباشرة، من غير أن يصطنع المنطق الأرسطي، أو يدخل في تعقيدات ترتيب المقدمات، واستخراج النتائج، أو يلقي بنفسه في أتون الجدال المستعر الذي لا يهدف إلا إلى مجرد الجدل. وبعد أن تقدم العلم المادي لوناً من التقدم أصبحت هذه النقطة المحورية التي كانت أساس دليل المتكلمين في الماضي، هي نفسها الأساس الذي يعتمد عليه جمهور القائلين بحدوث العالم، وأنه يحتاج إلى إله يدبر أمره بعد أن احتاج إليه ليخرجه من العدم إلى الوجود. والدارسون للفلسفة من علماء الطبيعة أو علماء الحياة قد يصطنع بعضهم طرقاً معترف بها في العرف الفلسفي، وهم يعرضون هذا الدليل على العامة والخاصة. ومن بين هؤلاء العلماء الأستاذ ـ فرانك ألن ـ المتخصص في الطبيعة البيولوجية حيث عرض دليل الحدوث، واستنتج منه أن لهذا العالم سبب أخرجه من العدم إلى الوجود، ولم يتركه بعد هذا الإخراج بدون عناية أو تدبير. ولقد عرض الأستاذ ـ فرانك ألن ـ دليله هذا بطريقة معروفة في العرف الفلسفي باسم ـ السبر والتقسيم (1) ـ بأسلوب شيق أوصله إلى ما يريد من نتائج. وهذه عبارته بنصها نذكرها بغير تدخل منا فهي واضحة في الإبانة عن مقاصدها شيقة في أسلوبها وطريقة عرضها : ( كثيراً ما يقال إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته ؟ هنالك أربعة احتمالات للإجابة عن هذا السؤال : فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال، وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده، وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم، وإما أن يكون أبدياً ليس لنشأته بداية، وإما أن يكون له خالق ). أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي، وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول إننا نعيش في عالم من الأوهام، فمثلاً هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات، وبها ركاب وهميون وتعبر أنهاراً لا وجود لها، وتسير فوق جسور غير مادية ... إلخ، وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال. أما الرأي الثاني : القائل إن هذا العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفاً وحماقة، ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة. والرأي الثالث : الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون، وذلك في عنصر واحد هو الأزلية. وإذاً فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى حي يخلق. وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر، ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً، وأنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت. أما الشمس المستقرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذاً حدث من الأحداث، ومعنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شئ، قوي ليس لقدرته حدود، ولابد أن يكون هذا الكون من صنع يديه ) (1). (1) إن عرض أي دليل من الأدلة على طريقة السبر والتقسيم يكسب هذا الدليل لوناً من الوضوح في مقدماته ونتائجه ، ولذلك فإن جهابذة العلماء الذين يقصدون إلى وضوح العبارة، وتجنب التطويل، وسرعة الوصول إلى المقاصد والغايات، يفضلون اصطناع هذا اللون من الاستدلال ، ويتحمسون له من بين المناهج التي يتحمسون إليها والتي تؤدي بهم عبر أخصر الطرق إلى مقاصدهم وغاياتهم. يقول الإمام الحجة أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) شارحاً هذه الطريقة أو مبرراً لجوءه إليها : ( المنهج الأول : السبر والتقسيم وهو أن محصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثوبت الثاني كقولنا العالم إما حادث وإما قديم، ومحال أن يكون قديما فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثاً وهذا اللازم هو مطلوبنا وهو علم مقصوداً استفدناه من علمين آخرين : أحدهما قولنا : العالم إما قديم أو حادث فإن الحاكم بهذا الانحصار علم. والثاني قولنا : ومحال أن يكون قديماً فإن هذا علم آخر. والثالث هو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث وكل علم مطلوب فلا يمكن أن يستفاد إلا من علمين هما أصلان ولا كل أصلين ، بل إذا وقع بينهما ازدواج على وجه مخصوص وشرط مخصوص فإذا وقع الازدواج على شرطه أفاد علما ثالثاً وهو المطلوب، وهذا الثالث قد نسميه دعوى إذا كان لنا خصم ونسميه مطلوباً إذا كان لم يكن لنا خصم لأنه مطلب الناظر ونسميه فائدة وفرعاً بالإضافة إلى الأصلية فإنه مستفاد منها. ومهما أقر الخصمان بالأصلين يلزمه لا محالة الإقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى . الاقتصاد في الاعتقاد ـ الإمام الغزالي ص 21 ، 22. 2- نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد ـ مقالة ـ فرانك ألن من كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) ص 5 ، 6 . |
عدل سابقا من قبل mmaarrooaann في السبت 21 يناير 2012, 3:38 pm عدل 1 مرات