وجود الله تعالى بين الفطرة والدليل
الموضوع العاشر
هذا لون آخر من الاستدلال لا يرتكز على الوجود الطبيعي ارتكازاً مباشراً وإنما يأخذ التأمل الفكري محوره الأساسي الذي يدور عليه.
بمعنى أن أساس هذا الدليل كله ومنهجه إلى الغاية التي ينتهي إليها إنما هو التأمل الفكري، أو التفكير العقلي.
ولقد اصطنع هذا اللون من الاستدلال أولئك النفر الذين يعتزون بالعقل اعتزازاً شديداً، ويرون أن المعرفة يمكن اعتبارها وسيلة مأمونة العواقب في الوصول إلى النتيجة الحقيقية التي ينبغي الإيمان بها.
ومن هؤلاء القوم ـ بل من أشهرهم ـ فلاسفة الإسلام المشهورين كالفارابي وابن سينا.
ويدور تفكيرهم جميعاً حول فكرة الوجود وتحليلها، والقول بالثنائية فيها، إذ إنه ليس هناك من شك في وجود موجود يقر العقل به، باعتباره أمراً واقعاً متحققاً في الخارج، ويعتبر هؤلاء القوم أن هذا الموجود أياً كان يعتبر وجوده بدهية لا تحتاج إلى استدلال.
ثم يقولون مرتبين الحديث على هذه الأولية العقلية بأن هذا الموجود المتحقق بداهة لا يخلو عن أحد أمرين لأنه إما أن يكون ممكن الوجود لذاته، أو واجب الوجود.
وواجب الوجود هو الذي لا يحتاج إلى غيره، وممكن الوجود هو الذي يحتاج إلى غيره ليتحقق وجوده، فإذا وجد بالفعل أمكن القول بأنه واجب الوجود للغير، حيث إن خروجه من العدم إلى الوجود كان مسبباً، وناتجاً عن فعل غيره.
ولو افترضنا جميع الموجودات المتحققة في الخارج من قبيل الممكنات بحيث لا يكون واحد منها واجب الوجود لذاته لأوقعنا هذا الافتراض نفسه في معضلة عقلية، ومشكلة فكرية مؤداها : أن هذه الموجودات الملحوظة في الخارج تحتاج إلى موجد يوجدها من العدم، ويعني بها بعد وجودها كي يستمر وجودها، حيث إن العقل قد ثبت لديه أن الممكن لا يستقل بنفسه، وليس وجوده من ذاته.
ولا يقبل العقل أن يكون سبب وجود الممكن ممكنا آخر يكون سابقاً عليه في الوجود، ثم يذهب العقل في الافتراض هكذا بغير نهاية في درب من التسلسل المقيت يقطع ظلمات الماضي في طريق طويل بغير نهاية.
كما أن العقل لا يقبل حل هذه المعضلة على أساس أن الموجودات الممكنة موجودة على هيئة حلقة مستديرة الشكل، يؤثر كل جزء منها في الذي بعده.
إ ذ إن هذا الفرض سيؤدي في النهاية إلى القول صراحة بأن كل وحدة من وحدات هذه الحلقة المستديرة مؤثر في الذي بعده متأثر به في ذات الوقت.
بل إنه من الممكن القول والحالة هذه : أن كل وحدة من وحدات هذه الحلقة أثر في نفسه وتأثر بها.
كما أن العقل لا يقبل حل هذه المعضلة السابقة على أساس أن الكل المجموعي (وهو غير الآحاد بالطبع)، هو الذي أثر في تلك الآحاد الممكنة، ومنحها الوجود.
ذلك أن هذا الكل المجموعي من قبيل الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلا في العقل.
والأمر الموجود في العقل فقط، والذي لاحظ من الوجود الخارجي لا يجوز أن نخلع عليه صلاحية التأثير في الأمور الخارجية على أساس أنها ليست إلا لموجود خارجي تؤهله ماهيته لتلك الصلاحية.
وتبقى هذه المعضلة قائمة بغير حل حتى نعود إلى تعديل الفرض الأول، ونعترف بأنه لا يجوز أن نقر بأن كل المتحقق في الواقع الخارجي من الموجودات ممكن فقط.
ولكي تحترم الإنسانية هواتفها العقلية، فإن عليها أن تسلم بثنائية الوجود على أساس أن هناك موجودا ممكن الوجود لذاته، وموجودا آخر واجب الوجود لذاته له الكمال المطلق.
وهذا الموجود لذاته الذي له الكمال المطلق هو الله عز وجل.
ولقد شرح ابن سينا والفارابي وغيرهما هذا الدليل بشكل مركز ومطول في أماكن كثيرة من الكتب الفلسفية التي توارثناها عن هؤلاء الأعلام (1).
والمتأمل في هذا الدليل يجد أنه قد اعتمد على فكرة الوجود وتحليلها، وعلى القول بثنائية هذا الوجود للوصول إلى غايته، من غير احتياج إلى تتبع جزئيات العالم الخارجي، أو استقراء العالم المحسوس كما فعل علماء الكلام.
ومن هنا أمكن تسمية هذا النوع من الاستدلال بأنه لون من ألوان الاستدلال العقلي المجرد، أو التأملي.
ولما كان هذا الدليل قد اعتمد على الكليات وتحليلها في إثباته لوجود الله ثم نزل من هذه القمة العالية إلى بيان أثر الله في العالم اعتبر لذلك دليلاً نازلاً على عكس ما ذكره علماء الكلام من أدلة تستقرئ هذا الوجود الطبيعي لتصعد منه إلى القول بأن الله موجود.
فهذا الأخير دليل ساعد في التفكير في حين أن دليل الفلاسفة دليل نازل.
وهذا الفارق بين دليل المتكلمين ، ودليل الفلاسفة اعتبره بعض كبار الفلاسفة نقطة زهو ينبغي أن تحسب لهم، وموضع فخار يتفاخرون به على غيرهم.
ولقد أشار إلى هذه المقارنة بين دليل الفلاسفة هذا، ودليل المتكلمين السابق عليه، وإبراز فضل دليل الفلاسفة في نهاية هذه المقارنة كل من أبي نصر الفارابي ، والشيخ الرئيس أبي علي بن سينا .
يقول الفارابي : [ " لك أن تلحظ عالم الخلق فترى فيه أمارات الصنعة. ولك أن تعرض عنه وتلحظ عالم الوجود المحض، وتعلم أنه لابد من موجود بالذات، وتعلم كيف ينبغي أن يكون عليه الموجود بالذات.
فإن اعتبرت عالم الخلق فأنت صاعد، وإن اعتبر عالم الوجود المحض فأنت نازل. تعرف بالنزول أن ليس هذا ذاك، وتعرف بالصعود أن هذا غير هذا. "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد" ] سورة فصلت (1).
ويقول ابن سينا :
[ تنبيه : تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول، ووحدانيته، وبراءاته من السمات، إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك دليلاً عليه ... لكن هذا الباب ( في الاستدلال ) أوثق وأشرف ، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فتشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود.
وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ـ أقول : إن هذا حكم لقوم، ثم يقول : ـ في الكتاب الإلهي أيضاً ـ : " أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " ـ أقول: إن هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به، لا عليه ] (2).
مهما كان من زهو الفلاسفة بهذا النوع من الاستدلال، فإنه لم يسلم من النقد والتجريح، ولم يكن بمنأى من السهام الموجهة إليه حتى من بعض كبار الفلاسفة أنفسهم (3).
غير أن هذا الانتقاد لا يقلل من حجم الطرافة الفكرية، والمتعة العقلية التي يمكن للقارئ أن يلحظها، ويشعر بها وهو يقرأ هذا الدليل في مصادره الأصلية.
غير أن جهد بشري، وكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا من اختصهم الله بالرسالة، وكلفهم بالبلاغ عنه
عدل سابقا من قبل mmaarrooaann في السبت 21 يناير 2012, 4:03 pm عدل 1 مرات