وجود الله بين الفطرة والدليل
الموضوع الثانى والعشرون
أدلة على وجود الله : دليل الخلق |
ثانيا : دليل الخلق : ـ ويسمى دليل الإبداع ، ودليل الاختراع ، ودليل الفطر. وقد وردت مادة ( الخلق) في القرآن الكريم (336) مرة ، تحدث القرآن عن خلق السموات ، والأرض ، والليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والإنسان ، وغير ذلك . ودليل الخلق يعتمد على مقدمتين : المقدمة الأولى : أن هذه الموجودات مخلوقة ؛ فإن ذواتنا نحن لم تكن موجودة ، ثم وجدت ، ولكل منا وقت وجد فيه لم يكن قبله موجودا، وكذلك عالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعناصر الكون مهما اختلف العلماء في تقدير أعمارها ، فهم متفقون على أنها لم تكن موجودة ، ثم وجدت . والقانون الثاني للديناميكا الحرارية (قانون الطاقة المتاحة) أو (ضابط التغير) يثبت أن للكون بداية(1) ، فهو إذن مخلوق. كما أن فناء الأشياء ـ كما نراه ـ يدل على أنها مخلوقة ؛ إذ الأزلي لا يفنى ، ويقاس عليها مثيلاتها من الممكنات الموجودة ، فهي قابلة للفناء أيضا ، فهي مخلوقة . يقول ( جون كليفلاند كوثران) رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث : " تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء ، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة ، والآخر بسرعة ضيئلة ، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية ، ومعنى ذلك أيضا أنها ليست أزلية ؛ إذ أن لها بداية ، وتدلنا الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية ، بل وجدت بصورة فجائية ، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد ، وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لابد أن يكون مخلوقا، وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان " (2). والمقدمة الثانية : وهي كل مخلوق له خالق ، قضية بدهية ، لا تحتاج إلى دليل ، وهي مركوزة في فطرة الإنسان. إنه إذا وقعت حادثة لم يدر فاعلها قيل : إن الفاعل مجهول ، ولم يقل أحد قط : إنه ليس لها فاعل ، فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وربه ؟ . إننا لم نكن شيئا ، فكنا ، فمن كوننا ؟ { قل الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } (3). وهذه القضية : ( كل مخلوق له خالق ) لا تطبق على الله فلا يقال : من خلق الله ؟ لأن الله ليس مخلوقا فالشئ إما أن يكون خالقا أو مخلوقا ، فإن ثبت أنه مخلوق استحال أن يكون خالقا ، وإذا ثبت أنه الخالق ، استحال أن يكون مخلوقا . ونقف قليلا مع نظرية ( النشوء والارتقاء ) لداروين تلك النظرية التي يدرسها طلبة الجامعات ، والمرحلة الثانوية (قسم العلوم) بوزارة التربية والتعليم ، ومعاهد الأزهر ، يدرسها الطلبة ( إجباريا ) ضمن منهج ( الأحياء ) ويطبع من الكتاب المقرر الذي يحويها آلاف النسخ في كل عام (4). وهي تتعارض مع الإسلام الذي قال بالخلق المباشر للموجودات ، ووجود خالق ، عالم ، مريد ، قادر ، إذ يرى أصحاب هذه النظرية : أن الأنواع والأجناس قد نشأ بعضها عن بعض بطريق التطور والارتقاء من البسيط إلى المعقد ، وبقانون الانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، والوراثة ، حتى وصل التطور إلى ( القرد) ومن القرد إلى الإنسان مع وجود حلقة مفقودة بين القرد والإنسان ، ويرون أن ظاهرة الحياة قد نشأت في المادة في البداية بطريق الصدفة !!. ونسارع فنقول : إن هذه ليست نظرية ، إنما هي فرض لم تثبت صحته ؛ فلم يستطع صاحب الفرض ، ولا أتباعه التدليل على صحته بأدلة علمية ، وبراهين صحيحة مقنعة. كما أنها تتعارض مع ما قرره علم التشريح ، وعلم الأجنة (5)، ومع شهادة الصخور ، ونتائج علم الجيولوجيا (6). " إن قوانين التكاثر ـ كل حسب نوعه ـ تؤيده بقايا الكائنات الحية من كل الأنواع ، والعلم يتفق مع الحقيقة بأن جميع الأجناس قد انحدرت من الزوجين الأصليين . والحفريات تثبت الظهور المفاجئ ، لمدنيات أرقى ، والعلم يقول بأن الإنسان لا يستعمل إلا جزءا ضئيلا من مخه ، الأمر الذي يعتبر نقدا مباشرا لنظرية الارتقاء ؛ لأن الارتقاء لا ينجم عنه أجزاء عديمة النفع ، ولكن الأديان تقول بأن الإنسان كان في البداية كاملا ، ويستخدم مخه كله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) } [ التين ] . ويلاحظ هذا فيما كان يتمتع به قدماء المصريين من معرفة مذهلة ، وفي بناء الأهرامات دليل على قدر من المعرفة ، يقف علماء اليوم أمامه مبهورين محاولين في تواضع أن يكتشفوا سره ، ولكن هذا الكمال الأول قد فقده الإنسان بعصيانه لخالقه ، وما استتبع ذلك من تهور في قواه البدنية والذهنية " (7). وأعلن ( أوستين كلارك) العالم الجيولوجي ... أنه لا توجد علامة واحدة على الاعتقاد بأن أيا من المراتب الحيوانية الكبرى تنحدر من غيره . إن كل مرحلة لها وجودها المتميز ، الناتج عن عملية خلق خاصة ومتميزة . لقد ظهر الإنسان على الأرض فجأة، وفي نفس الشكل الذي نراه عليه الآن . ثم يأتي الدور على النشوئي الشهير (الكونت دي نوي ) ليعترف بأن : كل مجموعة ، كل فصيلة تبدو وكأنها جاءت إلى الوجود فجأة. إننا لم نعثر على أي شكل انتقالي ، ومن المستحيل أن ننسب أي مجموعة حديثة إلى أخرى أقدم " (. هذا ما يقوله المتخصصون في هذا المجال ، ونوجه إلى أصحاب (النشوء والارتقاء ) هذه الأسئلة ، وليس لديهم عنها جواب : • كيف تفسرون هذا النوع من التطور الارتدادي الذي يتم من المعقد إلى البسيط ، أي عكس ما زعمتم من أن التطور يسير من البسيط إلى المعقد ؟ • كيف تفسرون ما نلاحظه من أن التطور لا يتم بسرعة واحدة في الأنواع والأجناس المختلفة ، بل وفي النوع الواحد أيضا ؟ • كيف تفسرون بقاء (القرد) وانقراض الحيوان الذي كان واسطة بينه وبين الإنسان ؟ أليس القول بالانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، يقتضي انقراض القرد ، وبقاء الحيوان الواسطة ، والواقع غير ذلك ؟ • كيف تفسرون وجود قدرات متفوقة لدى بعض المخلوقات لا يوجد مثلها لدى الإنسان ؟ كقدرة الطيور على الطيران ، وقدرة الضفادع على العيش في الماء والبر ، وقدرة الجمال والحمير على الرؤية في الظلام ، هل هذه الأنواع أرقى من الإنسان !! لقد أعلنت أوربا عن زيف هذه النظرية بعد أن أدت دورها الذي أشيعت من أجله . وهو بيان التعارض الصريح بين العلوم الطبيعية ، التي أدت إلى التقدم الحضاري في أوربا ، وبين الدين الذي قدمته الكنيسة للناس خلال قرون ، والذي من أجله اضطهد العلماء ، وحكم عليهم بالقتل والسجن والتعذيب ، وحكم على كتبهم ومؤلفاتهم بالإعدام والحرق. ثم استخدمت دول الاستعمار هذه النظرية في تحطيم أديان الأمم المستعمرة بعرضها في ثوب علمي ، حتى ينخدع بها طلاب العلم ، ثم تحدث آثارها في التشكيك في الدين . وقد ألغيت دراسة هذه ( الفرضية ) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1935م بعد أن ثبت علميا زيفها ، وأصدر ( الكنيست ) في إسرائيل قرارا بتحريم دراستها : ( لأنها تتعارض مع عقيدة الخلق كما وردت في التوراة ) هكذا ذكروا ، ونشر هذا في جريدة الأهرام القاهرية . ومع ذلك فإن المسئولين ـ في مصر ـ يصرون على تدريسها للشباب في هذا السن الذي يتسم بالقلق ، والحيرة ، والبحث عن حقيقة هذا الوجود بينما يعترضون على تدريس الدين الحق في الجامعات ، ويمارون في اعتباره مادة نجاح أو رسوب في المدارس ، إن هذا لشئ عجيب !! نماذج من عرض القرآن لدليل الخلق : ـ 1ـ خلق السموات والأرض : ـ قال تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواته في أربعة أيام سواء للسائلين(10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) } [ فصلت] ورد الحديث عن خلق السموات والأرض في حوالي (42) موضعا من القرآن الكريم ـ وهذا الموضع أكثر تفصيلا ، حيث بين أنه تعالى خلق الأرض في يومين ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين ، وفرغ من السموات في يومين ، فكان خلق السموات والأرض في ستة أيام ، كما صرح بذلك القرآن الكريم في أكثر من سورة(9) ، وقد كانت السماوات والأرض شيئا واحدا متصلا ، خلقه الله تعالى من الماء ، فقد قال تعالى : { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(31) وجعلنا السماء سقفا محفوظاوهم عنءاياتنا معرضون(32)}[الأنبياء] قال البيضاوي : " أي كانتا شيئا واحدا ، وحقيقة متحدة ، ففتقناهما بالتنويع والتمييز" (10). وجاء في الحديث الشريف : " كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض"(11). وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن الله عز وجل كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه . فسمى سماء ، ثم أيبس الماء ، فجعله أرضا ، فالماء أصل لجميع الكائنات. وقد حدد القرآن عدد السموات بأنها سبع سموات فقال تعالى : • { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } [ الإسراء /44]. • { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17)} [المؤمنون} • { الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [ الملك / 3] • { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) [ نوح] أما الأرض فمع تكرر ذكرها في القرآن الكريم (461) مرة إلا أنه لم ترد إلا آية واحدة تشير إلى عددها وهي : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (12) } [ الطلاق ]. 2ـ خلق الإنسان : ورد الحديث عن خلق الإنسان في القرآن الكريم في (42) موضعا. منها ما يتعلق بخلق الإنسان الأول سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ ومنها ما يتناول خلق زوجه حواء ، ومنها ما يدور حول خلق نسلهما. أما ما يتصل بخلق الإنسان الأول (آدم ) فإن القرآن فصل ذلك ، وبين مراحل خلقه ؛ ليثبت وجود الخالق ، ويظهر دلائل علمه ، وإرادته ، وقدرته . بين القرآن ( المادة ) التي خلق منها آدم ، وكيف تحولت من حال إلى حال ، حتى صار بشرا سويا صالحا لأن يكون خليفة في الأرض. وهذه المادة هي ( التراب ) قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) } [ آل عمران ]. و ( الماء ) قال سبحانه : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) } [ الفرقان ] . ومن التراب والماء كان ( الطين ) قال تعالى : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) } [ ص ] وهو طين ( لازب ) أي لازق . يلصق باليد . قال سبحانه : { إنا خلقناهم من طين لازب (11)} [الصافات] واختار منه (سلالة) منتقاة . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) } [ المؤمنون ]. وهذه السلالة أسودت وتغيرت ، فصارت ( الحمأ المسنون ) . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)} [الحجر] . أي من طين يابس ، يصلصل أي يصوت ، كأنه من حمأ مسنون، فهو كالفخار . قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار(14)} [ الرحمن]. وبعد ذلك ( سواه ) أي خلقه ونفخ فيه من روحه . قال سبحانه : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) } [ ص ] . وأما ما يتعلق بخلق زوج آدم ( حواء ) فقد أجمل القرآن الحديث عنه فقال : { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } [ النساء/1] . وقال : {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها }[ الأعراف/189] وبين الحديث النبوي أن الله خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام . وأما حديث القرآن عن خلق نسل آدم ، فهو حديث مستفيض ، جاء في أكثر من موضع ، وكل هذه المواضع تدل على وجود الخالق الأعظم ، ويتسم أسلوب العرض بالدقة الدقيقة ، والجمال الأخاذ ، والإعجاز العلمي. من هذه المواضع قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) } [المؤمنون]. وإذا فهمنا أن المراد بالإنسان في هذا النص المبارك هو الإنسان الأول ـ سيدنا آدم عليه السلام ـ فإنه خلق من سلالة من الطين على النحو الذي وضحته الآيات الكريمة التي سبق ذكرها . وإذا كان المراد بالإنسان عموما آدم ونسله ، فإن العلم الحديث أثبت أن جسم الإنسان يتكون من العناصر التي يتكون منها التراب " فهو يتكون من الكربون ، والأكسوجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والأزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم والحديد، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسليكون ، والألومنيوم ، وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها في إنسان عن آخر ، وفي الإنسان عن التراب إلا أن أصنافها واحدة ) (12). ومن هذه العناصر يتكون الغذاء ، ومنه تكون النطفة التي هي عبارة عن منى الذكر ، وبويضة الأنثى. إنها خلية واحدة ، ولكنها الدليل على وجود الخالق جل في علاه ، وهل تجد أدق من وصف رحم الأم بالقرار المكين ؟ وتبدأ هذه الخلية الواحدة تنمو وتتكاثر ، فمنها يتكون اللحم ، والجلد، والأنسجة ، والغضاريف ، والسوائل ، والأجهزة المتنوعة المختلفة للإنسان ، والعجيب أن هذه الخلية الواحدة تحمل الصفات الوراثية سواء كانت جسمية أو عقلية ، أو نفسية !! . { فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) } [ الطارق ] . { ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون(23) ويل يومئذ للمكذبين (24) } [ المرسلات ]. "انظر إلى الجنين : كيف يتغذى في بطن أمه ، وكيف يتنفس ، وكيف أن الحبل السري الذي يربطه بأمه ليتغذى به منها ، قد روعى عند تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه مما قد يؤذيه . إذا ما فكرنا في ذلك ، فلا نملك إلا أن نعترف بقدرة الصانع ، ولطف الخالق" (13). وتأمل كيف هيأ الله للجنين الجو المناسب ، والوضع الملائم ، فأحاطه بثلاثة أغشية صماء ، لا تتأثر بالحرارة الخارجية ، ولا ينفذ منها الماء أو الضوء ، ولا تؤذيه رائحة ما في جوف أمه : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6) } [ الزمر ]. ويوضح لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله تعالى : {خلقا من بعد خلق} فيقول فيما رواه الشيخان : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بكتب أربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ) . فتبدأ الأم تشعر بحركة الجنين بعد مائة وعشرين يوما عند نفخ الروح فيه وهذه الروح هي التي سيترتب عليها التكليف والحساب بعد البلوغ ، وهي تختلف عن الحياة الأولية التي كانت موجودة في الخلية. وتأمل كيف خلق الله من المضغة البناء العظمي للإنسان الذي يعطيه شكله المميز ، ويحفظ له قوامه وجعل بين كل عظمتين ( مفصلة) تمنحه الحركة الدقيقة المطلوبة سواء كانت دائرية أو في اتجاه واحد ، أو في اتجاهين ، ولولا هذه المفاصل لأصبح جسد الإنسان قطعة واحدة ، ووضع حول المفصل سائلا لزجا ، ييسر الحركة ، أشبه بالشحم الذي يوضع للآلات المعدنية ، وخلق حول العظام (عضلات) لحمية تقوم بتحريكها. مع اختلاف عجيب في حجم وشكل وعمل كل عظم ومفصل وعضلة ! وتمر أيام الحمل حتى تحين لحظة الولادة ، ولكن كيف يخرج هذا الجنين من هذا المكان الضيق بعد أن كبر حجمه ، وزاد وزنه ؟ إن الله سبحانه وتعالى يهيئ أسباب ذلك : فيفرز الرحم السوائل اللازمة لخروج الجنين إلى الخارج . يقول الحق : { قتل الإنسان ما أكفره(17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) } [ عبس ] . يأيها الماء المهين من الذي سواكا ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاكا ومن الذي تعصي ويغفر دائما ومن الذي تنسى ولا ينساكا 3ـ خلق الطعام : قال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا(25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا(29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا(31)} [ عبس ]. رأينا فيما سبق أن الإنسان في بطن أمه يحصل على غذائه منها عن طريق الحبل السري. وقبل خروجه من رحم أمه يكون الحق تعالى قد أعد له مصدرا آخر لطعامه ، وهو ثدى أمه الذي يبدأ في وتصنيع اللبن ، وهو الغذاء الأمثل له بما يحويه من مواد نشوية ، ودهنية ، وبروتينية ، وفيتامينات ، وأملاح . والذي يختلف تركيبه وتركيزه يوما بعد يوم ليتناسب مع حجمه ، ومع قدرة معدته على هضمه. وبعد أن يتم الرضاعة يكون الله قد هيأ له جهازه الهضمي من فم وأسنان الخ . لتناول ما أودعه الله له في الأرض من نبات وحيوان تكفي لمخلوقات الله { وقدر فيها أقواتها في أربع أيام } [ فصلت /10] فقد هيأ الله تربة الأرض للإنبات بحيث يسهل انتقال ما فيها من مواد غذائية إلى بذور النبات : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) } [ الحجر ] . وكل بذرة تحمل خصائص نوعها وصنفها ، فتشق الأرض إلى أعلى مكونة : الساحة ، والفروع ، والثمار ، وتشق الأرض إلى أسفل مكونة : الجذور ، والعروق التي تمتص من التربة الغذاء. ولابد من مياه الري ، وإلا بقيت البذور جافة كما هي دون إنبات فاقتضت حكمته تعالى أن تتبخر مياه البحار ، فتصير سحابا ، يسقط غيثا مغيثا ، تتكون منه الأنهار ، والعيون ، والمياه الجوفية محفوظة في صحن صخري ، حتى لا تغور في أعماق الأرض { قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) } [ الملك ]. وحرارة الشمس عنصر هام للإنبات . ولكن بقدر معين . لأنها لو كانت ساطعة دائما ، لاحترقت النباتات . من هنا كانت حكمة خلق الليل والنهار { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) } [ الأنعام ] . والمادة الخضراء الموجودة في النبات هي مصانع الغذاء ، حيث تحول المواد المبثوثة في التربة من ماء وأملاح ومعادن ، وتضيف إليها ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء مع استخدام حرارة الشمس تحول كل ذلك إلى مواد غذائية صالحة لطعام الإنسان والحيوان. نأمل قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لأيات لقوم يؤمنون(99)} [الأنعام ] . =================== المراجع والهوامش : 1ـ انظر : وحيد الدين خان : الإسلام يتحدى ص 55 والله يتجلى في عصر العلم ص 27 2ـ الله يتجلى في عصر العلم ص 25 3ـ عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 21 4ـ انظر : التاريخ الطبيعي للصف الثالث الثانوي ص 160 ـ 183 ط سنة 1976 م وقد لاحظت وجود نقد يسير في الطبعات الأخيرة ، انظر طبعة سنة 1995م ص 202. 5ـ انظر : منيرة على الغاياتي : مذهب النشوء والارتقاء في مواجهة الدين ص 10 ـ 18 مكتبة وهبة . 6ـ المرجع السابق ص 17 7ـ المرجع السابق ص 25 8ـ المرجع السابق ص 13 ـ 14 وانظر : ( دارون ونظرية التطور) تأليف شمس الدين آق بلوت ترجمة عن التركية أورخان محمد علي ط. دار الصحوة . 9ـ في سورة الأعراف / 54 ـ يونس /3 ـ هود/7 ـ الفرقان /59 ـ السجدة /4 ـ ق / 38 ـ الحديد /4 10ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل ص 354 11ـ رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ـ الفتح 6ـ286 12ـ الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل ص 183 13ـ المرجع السابق ص 48 . |
عدل سابقا من قبل mmaarrooaann في الإثنين 23 يناير 2012, 5:41 pm عدل 1 مرات