حياة السعداء
كلنا يبحث عن السعادة والأمان اللذين يملآن القلب راحة واطمئنانا .. يقول أحد الباحثين عن السعادة ..
لقد بحثت عنها فى كل شىء فما وجدتها !! ..
ألبس أفخر الملابس وأفخمها .. طفت العالم مع أهلى .. تنقلنا من شاطىء إلى شاطىء .. فما زادنى ذلك إلا هما وضيقا ..
ظننتها فى الموسيقى والألحان .. فاشتريت أغلب الألبومات عربية وغربية .. قضيت فى سماعها ساعات ، أرقص على أنغامها .. فما ازددت إلا بعدا وضياعا .. ظننتها ـ أى السعادة ـ فى مشاهدة المسلسلات والأفلام .. فتنقلت بين الفضائيات على أطباق ومسلسلات أبحث عن الضحك والفرفشة ..
نعم ضحكت .. لكننى فى نفس الوقت كنت أنزف دما وأتألم فى أعماقى .. فلا زال هناك شىء مفقود .. مع الوقت زادت الجراح وحاصرتنى الهموم ..
واستشرت أصحابى فقالوا لى : إن السعادة فى الارتباط بفتاة .. تبادلك الحب والغرام .. وتبثك عبارات العشق والهيام ..
فأعطونى الأرقام .. وسلكت هذا الطريق .. وأخذت أتنقل من فتاة إلى أخرى .. بحثا عن السعادة الحقيقية .. فما وجدتها .. لقد هربت من الجحيم إلى جحيم أبشع وأفظع ..
يقول : أريدكم أن تعرفوا عنى .. وعن كثير من الغارقين أمثالى .. إننا ضحايا .. ولسنا بمجرمين .. نحن تائهون .. وحائرون .. أنا لا أقول ذلك دفاعا عن نفسى .. وعن الغارقين .. إنما أقول ذلك .. حتى إذا رأيتمونا .. فارحمونا .. وأشفقوا علينا .. وادعوا لنا بالهداية ..
سأسوق إليك ..
أسباب السعادة وصفات السعداء
إن من يريد أن ينال السعادة ، وهو لم يأخذ بأسبابها يصدق عليه قول الشاعر :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجرى على اليبس
فلنقف معا على أسباب السعادة وصفات السعداء ومنها :
ـ الإيمان بالله والعمل الصالح .
يقول الله تعالى ( مَن عَمِلَ صَالِحا مِن ذَكَرِ أو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنًه حَيَاةً طَيٍبَةً ) . ( النحل : 97 ) . أى : فلنحيينه حياة سعيدة ..
قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد ، إلا للمؤمن , إن أصابته سراء ، شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء ، صبر , فكان خيرا له ) . رواه مسلم .
وكان الرسول " صلى الله عليه وسلم " يجد راحته ولذته فى الصلاة والطاعة ، كان يقول : ( أقم الصلاة يا بلال ، أرحنا بالصلاة ) .رواه أحمد وأبو داود .
بينما نجد كثير من الناس يقول : أرحنا من الصلاة ، نحن فى غم ، فى هم ، نحن مشغولون عن الصلاة ـ هكذا يقولون ـ والرسول " صلى الله عليه وسلم " يقول : ( وجعلت قرة عينى فى الصلاة ) . رواه أحمد والنسائى .
وتأمل معى ، لنرى كيف يفعل الإيمان بأصحابه ، كيف يجعلهم يشعرون بالسعادة فى كل الأحوال !!
ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عُذِبَ وسُجِنَ وطُرِدَ ، ومع هذا نجده يقول ، وهو فى قلعة دمشق ، فى آخر مرحلة من مراحل إيذائه وجهاده ، يقول : ( ما يصنع أعدائى بى أنا جنتى وبستانى فى صدرى ، إن رحلت فهى معى لا تفارقنى ، إن حبسى خلوة ، وقتلى شهادة ، وإخراجى من بلدى سياحة ) ..
هكذا يغلق الطرق فى وجوه أعدائه بهذه المقولة الخالدة ، التى تضىء الطريق للمؤمنين ، ولا يستطيعها إلا عظماء الرجال ، وذوو الهمم العالية ..
ـ الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره .
اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك .. وهذه صفة السعداء ، الرضا بقضائه وقدره ، لأن الإنسان فى هذه الحياة لا بد أن ينتابه شىء من الهموم والمصائب .. فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر ، هلك ..
فهذا عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ عندما أرادوا أن يقطعوا رجله ، لأن فيها الأكلة ( السرطان ) فقالوا له : لا بد أن نسقيك خمرا ، لكى نستطيع أن نقطع رجلك بدون أن تحس بآلام القطع ـ خاصة أنهم بعد القطع سيضعونها فى الزيت المغلى ليقف الدم ـ فماذا كان موقفه ؟ لقد رفض .. وقال : لا ، أيغفل قلبى عن ذكر الله ؟ فقالوا : إذا ماذا نفعل ؟
قال : إذا قمت إلى الصلاة ، فافعلوا ما تشاؤون ، لأن قلبه ـ حينئذ ـ يتعلق بالله ، فلا يحس بما يفعل به ..
وعندما كبر مصليا ، قطعوا رجله من فوق الركبة ، ولم يتحرك ، ولكن عندما وضعوا رجله فى الزيت المغلى سقط مغشيا عليه ، وفى الليل أفاق ..
فإذا بالناس يقولون له : أحسن الله عزاءك فى رجلك ، وأحسن الله عزاءك فى ابنك .. لقد مات ابنه فى هذه الأثناء ، فماذا قال ؟
قال : بكل تسليم وإيمان بالقضاء ( الحمد لله ، يا رب إن كنت ابتليت فقد عافيت ، وإن كنت أخذت فقد أعطيت وأبقيت ) .. قال تعالى ( وَمَا يُلَقًاهَا إِلاً الًذِينَ صَبرُوا وَمَا يُلَقًاهَا إِلاً ذُو حَظٍ عَظِيمِ ) . (فصلت : 35 ) .
ـ العلم الشرعى .
فالعلماء العارفون بالله هم السعداء .. وإليك قصة أبى الحسن الزاهد ، مع بن طولون الظالم فما أحداث تلك القصة المثيرة ؟
كان أحمد بن طولون ـ أحد ولاة مصر ـ من أشد الظلمة ، حتى قيل : إنه قتل ثمانية عشر ألف إنسان صبرا ( أى : يقطع عنه الشراب والطعام حتى يموت ) وهذا أشد أنواع القتل ، فذهب أبو الحسن الزاهد إلى أحمد بن طولون امتثالا لقول الرسول " صلى الله عليه وسلم " ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) . رواه أحمد والنسائى وابن ماجه .
وقال له : إنك ظلمت الرعية ، وخوفه بالله ـ تعالى ـ فغضب ابن طولون غضبا شديدا ، وأمر بأن يجوع أسد ثم يطلق على أبى الحسن !!
يا له من موقف رهيب !!
لكن نفس أبى الحسن الممتلئة بالإيمان والثقة بالله ، جعلت موقفه موقفا عجيبا .. عندما أطلقوا عليه الأسد أخذ يزأر ، ويتقدم ، ويتأخر ، وأبو الحسن جالس لا يتحرك ، ولا يبالى .. والناس ينظرون إلى الموقف ، بين باك وخائف على هذا العالم الورع الذى وضعوا أمامه أسدا جائعا !!
إنها معركة غير متكافئة !! ولكن ما الذى حدث ؟
لقد تقدم الأسد وتأخر ، وزأر ، ثم سكت ، ثم طأطأ رأسه ، فقرب من أبى الحسن ، فشمه ، ثم انصرف عنه هادئا ، ولم يمسسه بسوء .. وهنا تعجب الناس ! وكبروا ، وهللوا .. ولكن فى القصة ما هو أعجب من ذلك .. لقد استدعى بن طولون أبا الحسن ، وقال له : قل لى بماذا كنت تفكر ، والأسد عندك ، وأنت لا تلتفت إليه ، ولا تكترث به ؟
فأجاب قائلا : إنى كنت أفكر فى لعاب الأسد ـ إن مسنى ـ أهو طاهر أم نجس ؟
قال له : ألم تخف الأسد ؟
قال : لا ، فإن الله قد كفانى ذلك .. هذه هى السعادة الحقيقية ، الذى يورثها الإيمان والعلم النافع ، هذا هو الانشراح الذى يبحث عنه كل الناس .. هذا الموقف الصلب من أبى الحسن يذكرنا بموقف الصحابى الجليل خبيب بن عدى ـرضى الله عنه ـ عندما أسره المشركون .. وقبل أن يقتلوه سألوه : هل لك حاجة قبل أن تموت ؟
فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلى ركعتين ، فأمهلوه فصلى ركعتين ، وكان أول من سن الركعتين قبل القتل .. وبعد الصلاة قال : والله لولا أنى خشيت أن تظنوا أنى جزع من القتل ، لأطلت الصلاة .. فلما رفعوه ليصلبوه ويقطعوه ، سألوه : أتحب أن محمدا مكانك وأنك بين أهلك ؟
فقال : " والله إنى لا أحب أن يصاب محمد بشوكة بين أهله ، وأنا فى مكانى هذا " !!
انظر يا أخى إلى قوة اليقين ، وصلابة المؤمنين !!
ثم قال ـ رضى الله عنه ـ : " اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا " .. وأنشد يقول :
ولست أبالى حين أُقتَلُ مسلما *** على أى جنب كان فى الله مصرعى
ولست بمبدٍ للعدو تخشعا *** ولا جزعا إنى إلى الله مرجعى
وذلك فى ذات الإله وإن يشاء *** يبارك على أوصال شلو ممزع
شجاعة ، بطولة ! قوة يقين ! رسوخ إيمان ! يصلى بثبات ، يرد عليهم بثبات ، يدعو عليهم بثبات ، ينشد هذه الأبيات بثبات ، هذا هو لب السعادة لمن أرادها .. الإكثار من ذكر الله وتلاوة القرآن ، قال تعالى ( أَلا بِذِكرِ الله تَطمَئِنٌ الًقُلُوبُ ) . ( الرعد : 28 ) .
ـ المداومة على ذكر الله .
إن من داوم على ذكر الله ، يعش سعيدا مطمئن القلب .. أما من أعرض عن ذكر الله ، فهو من التعساء البؤساء .. قال تعالى ( وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرًحمَنِ نُقَيٍض لَهُ شَيطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) . ( الزخرف 36 ) .
وقال تعالى ( وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنً لَهُ مَعيشَةً ضَنكَاً وَنَحشُرُهُ ىَومَ الًقِيامِةٍ أَعمَى) . ( طه : 124 ) ز
ـ انشراح الصدر وسلامته من الأحقاد .
وفى القرآن الكريم آيات عديدة فى مقام الانشراح ، فقد حكى الله عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله ( رَب اشرَح لِى صَدرِى ) . ( طه : 25 ) .
وقال تعالى ممتنا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( أَلم نَشرَح لَكَ صَدرَكَ ) . ( الشرح : 1 )
وقال تعالى ( وَمَن يُرِد الله أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإسلام ) . ( الأنعام :125 ) .
ـ الإحسان إلى الناس .
وهذا أمر مجرب ، ومشاهد ، فإننا نجد الذى يحسن إلى الناس من أسعد الناس ، ومن أكثرهم قبولا فى الأرض .
ـ النظر إلى من هو دونك فى أمور الدنيا وإلى من فوقك فى أمور الآخرة
كما ورد فى التوجيه النبوى الكريم حين قال " صلى الله عليه وسلم " ( انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا غلى من هو فوقكم ، فهو اجدر ألا تزدروا نعمة الله ) رواه مسلم .
هذا فى امور الدنيا ، لأنك إذا تذكرت من هو دونك ، علمت فضل الله عليك .. أما فى أمور الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك ، لتدرك تقصيرك وتفريطك ، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك ، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا ..
ـ الاستعداد ليوم الرحيل .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدى فى كلمة جامعة مع أنها قصيرة : ( الحياة قصيرة .. فلا تقصرها بالهم والأكدار ) .
وها هو ابن حجر العسقلانى ـ رحمه الله ـ يخرج ذات يوم بأبهته ـ وكان رئيس القضاة بمصر ـ فإذا برجل يهودى ، فى حالة رثة .. فقال اليهودى : قف .. فوقف ابن حجر فقال له : كيف تفسر قول رسولكم ( الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ) وها أنت ترانى فى حالة رثة وأنا كافر، وأنت فى نعيم وأبهه مع أنك مؤمن ؟!
فقال ابن حجر : أنت مع تعاستك وبؤسك تعد فى جنة ، لما ينتظرك فى الآخرة من عذاب أليم ـ إن مت كافرا ـ وأنا مع هذه الأبهة إن أدخلنى الله الجنة ، فهذا النعيم الدنيوى يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذى ينتظرنى فى الجنات .. فقال : أكذلك ؟
قال : نعم . . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
ـ مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة
ولا يستطيع أحد أن ينكر أثر القؤين على قرينه ، فهو مشهود ، ومجرب ، وواضح من خلال الواقع ، ومن خلال التاريخ ..
ولذلك قال الرسول " صلى الله عليه وسلم ط ( مثل الجليس الصالح ، والجليس السوء ، كحامل المسك ، ونافخ الكير ) متفق عليه .
واعلم أن أذى الناس خير لك ووبال عليهم : قال ابراهيم التيمى : " إن الرجل ليظلمنى فأرحمه " .. ويروى ان ابن تيمية أساء إليه عدد من العلماء وعدد من الناس وسجن فى الإسكندرية .. فلما خرج قيل له : أتريد أن تنتقم ممن أساء إليك ؟ فقال : " قد أحللت كل من ظلمنى وعفوت عنه " . أحلهم جميعا لأنه يعلم أن ذلك سعادة له فى الدنيا والآخرة ..
ويحكى الفضيل ابن عياض ـ رحمه الله ـ أنه كان فى الحرم ، فجاء خراسانى يبكى ، فقال له : لماذا تبكى ؟ قال : فقدت دنانير ، فعلمت أنها سرقت منى ، فبكيت .. قال : أتبكى من أجل الدنانير ؟
قال : لا ، لكنى بكيت ، لعلمى أنى سأقف بين يدى الله أنا وهذا السارق ، فرحمت السارق ، فبكيت ..
وبلغ أحد السلف أن رجلا اغتابه ، فبحث عن هدية جميلة ومناسبة ، ثم ذهب إلى الذى اغتابه ، وقدم إليه الهدية .. فسأله عن سبب الهدية فقال : إن الرسول " صلى الله عليه وسلم " قال 0 من صنع لكم معروفا فكافئوه ) . وإنك أهديت لى حسناتك ، وليس عندى مكافأة لك إلا من الدنيا .. سبحان الله ..
ـ اللجوء إلى الله عز وجل وكثرة الدعاء .
وقد كان ذلك من هدى الرسول " صلى الله عليه وسلم " فروى عنه أنه قال ( اللهم أصلح لى دينى ، الذى هو عصمة أمرى .. وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى ، وأصلح لى أخرتى التى إليها معادى ، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير ، واجعل الموت راحة لى من كل شر ) رواه مسلم
وروى أنه يقول ( اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين .. وأصلح لى شأنى كله لا إله إلا أنت ) رواه أبو داود بأسناد صحيح .
ويقول كما ورد فى الأثر ( اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن ، ومن الجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال ) . . لتفوز بالحياة الطيبة الهانئة بعيدا عن الأكدار والمنغصات .. فإن الله عز وجل يقول ( مَن عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرِ أَوأُنثَى فَلَنُحيِيَنَهُ حَيَاةً طَيًبَةً وَلَنَجزِيَنَهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ) . (النحل : 97 ) .
حياة السعداء . لفهد بن عبد الرحمن الحميد