وقاك الله من شر البضاعة
دخل الإمام أحمد بن حنبل على الإمام الشافعى فى مرض موته ، فسأله عن حاله ، فقال الإمام الشافعى :
والله ماأدرى أنفسى إلى النار فأعزيها أم إلى الجنة فأهنئها ؟ يا أحمد !
أُحِبٌ الصالحينَ ولستُ منهم لعلى أن أنال بهم شفاعة
وأكرهُ من تجارتهُ المعاصى ولو كنًا سواءَ فى البضاعة
فقال له الإمام أحمد :
تُحِبُ الصالحين وأنت منهم ومثلُكَ من بِهِ تُرجَى الشفاعة
وتُبغِضُ من تجارتهُ المعاصى وقاك الله من شرً البِضَاعة
هذا موقف إيمانى يفيض بالدلالات الهادية ، والعبر النافعة ، فنجد فضل الزيارة فى الله ، فالإمام أحمد ـ رضى الله عنه ـ ذهب لزيارة الإمام الشافعى ، وما أحوجنا إلى إحياء هذه الآداب الإسلامية ، تأسيا بسيدنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم " الذى أوصانا أن نتزاور فى الله عز وجل ، وبيًن فىى حديثه ـ المبارك الشريف والهادى المعلم ـ أن المؤمن إذا زار أخا له فى الله ، فإن الملائكة تبارك له هذه الزيارة ، وتقول له : ( طبت وطاب ممشاك ، ويبشر بالجنة عند الله عز وجل ) ، فله ثواب عظيم لأجل هذه الزيارة .
يُضاف إلى هذا معنى آخر وهو الوفاء لأهل العلم ، وفاء التلميذ لأستاذه ، الوفاء لمن علمنا ، الوفاء لمن انتفعنا بعلمه وانتفعنا بأدبه وانتفعنا بأخلاقه .
لقد ذهب الإمام أحمد وقد كان تلميذا للإمام الشافعى ليؤدى واجب الوفاء نحو أستاذه ، يسأل أستاذه عن حاله ، ويسأل أستاذه إن كان يحتاج شيئا ، وهل من خدمة يمكن أن يقدمها له .
هذا الواجب ، وهذه الصلة الودود بين الأستاذ والتلميذ ، وبين التلميذ والأستاذ ، تشتد إليها حاجتنا ، حتى يبارك الله العلم الذى نعلمه ونتعلمه ، فإن الوفاء والخُلق حين يكون مع العلم ، يبارك الله هذا العلم وينفع به ، وهؤلاء رضى الله عنهم ، تأسوا بحال سيدنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم " فى احترام المعلم وفى تبجيله وفى العناية به ، وفى رعاية حااله ، وهكذا صنع الإمام أحمد بن حنبل مع أستاذه الإمام الشافعى ، لما ذهب يسأل عن حاله .
وما أحوجنا ـ نحن الآن فى ظروفنا ـ إلى أن نسأل ، ولكن السؤال الذى نسأله إنما هو من قبيل تأدية الواجبات الإجتماعية ، يقابلنى صاحبى فأسأله : كيف حالك ؟ ولا أنتظر الإجابة ... بل ربما توليت الإجابة بنفسى عن صاحبى : أنت بخير ، أنت كذا ... وأنصرف ، أما السلف الصالح فكانوا يسألون ، وسؤالهم كله جدية ، ينتظرون الإجابة ، حتى إذا ما بدا لدى صاحبه أو لدى أخيه شىء من الآلام أو الهموم ، سعى لإزالتها وعلاجها .
أيضا يفيض هذا الموقف بدلالات إيمانية هادية ، منها هذه الخشية ، الخشية من الله سبحانه وتعالى ، التى ظهرت من الإمامين الجليلين ، فكانت أجابة الإمام الشافعى ـ على تلميذه الإمام أحمد ـ أن قال له : والله ما أدرى أنفسى الى النار فأعزيها ، أم إلى الجنة فأهنئها .
إن الأمر هنا يرتبط بمنسوب الإيمان فى القلب ، حين سأله عن حاله ، كان المضمون هو الإيمان ، تأسيا بالنبى " صلى الله عليه وسلم " حين دخل على حارثة وقال له : ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) ، فأجابه إجابة الإيمان وقال له : أصبحت مؤمنا بالله حقا .
{مجمع الزوائد ( 1 ـ57 ) ، الإتحاف ( 2 ـ 238 ، 280 ) }
وحين دخل النبى " صلى الله عليه وسلم " على أهل الأيمان ، على الأنصار بالمدينة فقال لهم : ( أمؤمنون أنتم ؟ ) . قالوا : نعم مؤمنون ورب الكعبة .
فقال النبى " صلى الله عليه وسلم " ( وما علامة إيمانكم ؟ ) .
قالوا رضى الله عنهم : نرضى بالقضاء ، ونصبر على البلاء ، ونشكر على الرخاء .
فقال " صلى الله عليه وسلم ط ( مؤمنون ورب الكعبة ) .
{الطبرانى ( 11 ـ 153 ) ، مجمع الزوائد ( 1 ـ 54 ، 55 ) } .
ومن هنا يظهر لنا أن السؤال الذى كان دائما بين صحابة النبى " صلى الله عليه وسلم " وبين الأئمة إنما كان عن الإيمان ، على نحو ما حدث بين الإمام الشافعى والإمام أحمد .
مواقف وعبر . للدكتور محمد داود .