وجود الله تعالى بين الفطرة والدليل
الموضوع الثالث عشر
الموضوع الثالث عشر
الله موجود هذه القضية على بساطتها إن كان قد تنكر لها المتنكرون مدفوعين بدوافع الهوى، أو ممنوعين بأخطاء المنهج، وضلال التفكير المعوج، فإن هذه القضية نفسها قد تحمس لها الكثرة الغالبة من أبناء النوع الإنساني مدفوعين إلى هذا الحماس بالدلائل القطعية التي تظهر لهم بوضوح في الآفاق وفي أنفسهم فتوصلهم إلى غاية اليقين، وتصل بهم إلى قمة التسليم بمقتضى هذه القضية. الله موجود : قضية يؤمن بها المتدين على وجهها الصحيح إذا سلمت مشاعره من الآفات، وصفت فطرته من الكدرات. الله موجود : قضية يؤمن بها أصحاب العقول السليمة، وينصاعون إليها الضياع من تأخذه الحجة من جميع أقطاره، فلا يملك لنفسه فكاكاً ، ولا يستطيع أن يبصر أمامه طريقاً إلا هذا الطريق الذي يوصله إلى التسليم بمقتضى هذه القضية. الله موجود : إنها غاية الغايات التي يلتقي عندها المتدينون والعقلاء، وهي غاية الغايات التي ينتهي إليها أصحاب الألباب والمشاعر، فيجدون متعة العقل، ويستشعرون حلاوة الشعور، ويتنفسون الصعداء عقب رحلة شاقة قطعها العقل والشعور في سبيل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، فألقى العقل والشعور كلاهما عصى التجوال، وارتاح العقل والشعور كلاهما حين تربع كل منهما القمة السامقة على درج رقي الفكر الإنساني وكماله. الله موجود : غير أن هؤلاء العقلاء من أصحاب الفكر والرأي، وكذا أصحاب المشاعر من ذوي الأشواق العالية قد تركوا وراءهم كماً هائلاً متنوعاً من الأدلة العقلية التي تثبت هذه القضية، وتؤيدها، وتشهد بصحتها، وتلفت الألباب والنهي إلى عدم جواز الشك فيها. ولقد تنوعت هذه الأدلة مع اتحاد الغاية التي تقصد الوصول إليها ، حيث إن كلا منها قد سلك إلى الغاية طريقاً يخالف الطرائق والسبل التي انتهجها سائرها. فمن سالك إلى هذه الغاية طريقاً يتأمل بداية هذا الكون وإنشائه من العدم. ووجوده من حيث إنه لم يكن موجوداً ، واستمرار هذا الوجود. ومن سالك إلى هذه الغاية طريق العناية الظاهرة في هذا الكون، والتناسق الدقيق البادي فيه. ومن سلك إلى هذه الغاية درب الأخلاق ، وما تنطوي عليه من إلزام وجزاء، والصعود من ذلك إلى إثبات أن الله موجود ...... إلى غير ذلك من الطرائق والسبل، ودروب الاستدلال التي تنتهي كلها إلى غاية واحدة مهما تعددت أو تنوعت. ونحن بمشيئة الله في هذا الفصل سنحاول سرد بعض هذه الأدلة لبيان قيمتها في هذا المجال، وقد نعقب على بعضها بما يستلزمه الحال من التعقيب ، مع ثقتنا أن أصحاب هذه الأدلة جميعاً كانوا ينطلقون في دروبهم المختلفة مدفوعين بصدق النية إلى الوصول إلى أكرم غاية، وإن تعثر بعضهم في أثناء سيره فزلت به قدمه، أو انحدر به الطريق لعدم اتضاح الرؤية له. |