نفاق دفع البلاء
من عادتي التدبر في الكتب السماوية , كونها مخزون مليء بالقيّم الأخلاقية الرفيعة ,مليئة بالعبر والشرائع التي في مضمونها ومحتواها ما جاءت إلا لصالح الإنسان وعلى فترات متلاحقة ,الى أن وصل الإنسان الى ما نستطيع تسميته مرحلة التسيير الذاتي ضمن مساحة الحرية المكتسبة وحدود الشرائع,و كونه مخلوق عاقل وناقص في نفس الوقت ,يُفترض فيه أنه وصل إلى مرحلة الكمال الإنساني نسبياً ,ليستطيع التفريق مابين الخير والشر ,بناء على ما تتطلبه مصالحه الدنيوية والأخرو&iacucute;ة .ومن السور التي أحب قراءتها والتمعن في آياتها هي سورة البقرة .هذه السورة عالجت الكثير من المشاكل الإنسانية التي رافقت بناء المجتمع الإسلامي الأول حيث وجدوا دارا تجمعهم وتقيم دولتهم ,الدولة المدنية الأولى في تاريخ المنطقة ,في هذه السورة الكريمة كان التركيز على أهم مواضيع الإيمان ألا وهو التقوى حيث تكررت مادة التقوى خلال السورة بضعاً وثلاثين مرة, والتقوى هي الصفة الجامعة التي طُلبت من سائر الأمم في شتى الرسالات ,لتؤسس مجتمع القسط والعدالة
في قوله عز من قائل (ولله ما في السموات والأرض,ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم ,أن اتقوا الله) النساء 131
والتقوى كما وصفت ,هي تجنب الشوك في الطريق الوعرة المليئة بالأشواك حتى تصل الى الغاية النهائية بسلام.وأن تبتعد عن المعاصي التي تضرك وتضر مجتمعك.وتتمسك بقيم السماء وكأنها نزلت عليك.وتتمسك بالمعروف في مجتمعك لأن المعروف لم ولن يتناقض مع الشرائع السماوية.
.وأهم ما عالجته هذه السورة مشكلة من أهم المشاكل التي رافقت التطور البشري منذ تحوله من خلال علاقاته الاجتماعية المتبادلة إلى المجتمع الإنساني, ألا وهي مشكلة النفاق.وقد أحصيت عدد الآيات التي تتحدث عن المؤمنين الاتقياء في هذه السورة فوجدتها في ثلاثة آيات,وآيتين تتحدث عن الكافرين ,وثلاث عشرة آية في المنافقين ,وهذا يدل على خطورة أثرهم على المجتمعات كلها .وفي القرآن الكريم سورة كاملة عنوانها المنافقون,وهناك الكثير من الآيات الموزعة على سور القرآن الكريم تصف وتحذر من المنافقين. وعلى نفس المستوى تحدثت بعض أقوال السيد المسيح في الكثير من المواقع في الإنجيل أيضاً في وصف المرائين وخطورتهم على المجتمعات ,لما يسببونه من فساد وإفساد.وقد ابتليت بهذا المرض حتى الثورات الإنسانية المتعددة , وبنتيجة النفاق خسرت تلك الثورات العدد الكبير من كوادرها وإمكانياتها.
وقد قال الله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا).(النساء:145).
فهل هناك عقوبة ربانية مؤكدة أكبر من عقوبة النفاق والعياذ بالله.
قسم السلف النفاق الى النفاق الكبير الاعتقادي, حيث يُظهر الإنسان إيمانه وفي قلبه يضمر العداء للمؤمنين , والنفاق الصغير أو العملي , وهو الرياء والكذب وعدم الأمانة.
النفاق بشكل عام ,هو كل ما يظهره الإنسان بعكس ما يبطنه في داخل نفسه وهو من الممارسات الممقوتة حتى في أيامنا هذه.وللأسف الشديد بحيث أصبح أكثر الظواهر الاجتماعية انتشارا, يلعبها البعض وهي لعبة التضليل والتَّملّق والمديح المزيف، فتسمع من التقديس والإطراء ما تنفر منه الأسماع، وتشمئز منه الطباع.وينشأ النفاق في الرأس يبدأ على المستوى الشخصي لينعكس بعدها على المجتمع ككل ليصبح الصدق والوفاء والتمسك بالمبادئ عملة نادرة .هذا وقد انتشر النفاق في مختلف مجالات الحياة اليومية ,نفاق في العلاقات ...في العمل ..في التصرفات ...نفاق ديني سياسي واجتماعي الخ.وقد تجاوز النفاق حدود الأخلاق والمجاملات الاجتماعية ليصبح عادة طبيعية مستحكمة في ثقافة الأمة.والحقيقة هي إن تمويه الحقائق وتزيف الواقع معناه ضياع البلاد والعباد مثل مقولة النصر الإلهي التي استخدمت من قبل بعض الأنظمة الشمولية في حروبها العبثية أومن قبل بعض الحركات الإسلامية السياسية للخروج من أزمة سياسية تورطت فيها,فهؤلاء المتملقون المنافقون همهم بالنهاية أنفسهم ومصالحهم الخاصة.
وقد تطاول النفاق في عصرنا هذا حتى على شعوب الأمة العربية والإسلامية,وقد سببت الأنظمة الاستبدادية في تعاملها مع مواطنيها من خلال حرمانهم من أبسط حقوق البشر التي كفلتها الأديان ,وكفلتها حتى الشرائع البشرية المعاصرة ألا وهي الحرية. فلا حرية شخصية ,ولا حرية فكرية ,ولا حرية تعبير .كل شيء يخضع للمراقبة الأمنية ,حتى وصلت الأمور في بعض الدول التي تدعي التقدمية تدخل أجهزة الأمن في معاملات الزواج التي أصبحت بحاجة إلى موافقة أمنية.هذا الوضع دفع بالمواطن أن يمتهن حرفة النفاق لتسيير أموره عند السلطان ومؤسسات السلطان.
قال لي أحد الأصدقاء ,عجبي من شعوبنا التي مردت على النفاق ,تصور هذه الشعوب التي تُفرض عليها التظاهرات المؤيدة لهذا الزعيم الحاكم أو ذاك ,وتخرج بكل أطيافها في تلك المظاهرات الاحتفالية ,مُرغمة كارهة لوجود مثل هذا الحاكم المستبد أو ذاك .وعندما تقترب من المنصة التي يقف عليها سيادته أو جلالته,تصرخ بالهتافات لحياته وطول عمره....سألته وأين النفاق في هذا ...قال لي ..تصور يكرهونه ويهتفون له لا بأس ...لكن لماذا ترتسم الابتسامة على محياهم أمامه ... إذا كانوا لا يريدونه وهم مجبرين على قبوله تحت بند ولي الأمر ,ليهتفوا ولكن بدون أن يبتسموا ..ليرسموا على وجوهم على الأقل تعبير الحزن ...وهو أضعف الإيمان, لتظهر على محياهم بعض من أثار الغضب .... عسى ولعل أن يشعروه ,بأنه هو وزبانيته غير مرغوب فيهم.....سألته مازحاً ..بالله عليك ماذا تسمي نفاق هذه الشعوب ؟ هل هو النفاق الكبير ,أم هو النفاق الصغير . شرد قليلاً ....وأجابني ...تصور يا أخي حتى الكتب السماوية والشرائع الارضية لم تعالج هذا النوع من النفاق...لهذا لن تجد له تسمية خاصة ...لكني أستطيع أن أسميه لك بأنه نفاق دفع البلاء.وهذا النفاق هو حيلة الضعفاء