إنَّ النفوس مغرمة بذكر أهل الإحسان ناظرة إلى من أنعم عليها.. وكم هي عزيزة تلك النفوس التي ألهمت حسن الثناء على من أحسن إليها.
وهناك سؤال آخر: يا تُرى من الذي يستحق الثناء الكامل وحسن الذكر الذي لا يفوقه ذكر؟ ما أظن أنَّ الفطرة تنازعنا في الجواب! فإنَّ الذي يستحق ذلك هو صاحب النعم الكبيرة والفواضل العزيزة.. إنَّه الله سبحانه وتعالى، ولا أعظم من نعمة الإسلام والهداية إلى الدين الحق.
فشتان بين الذاكرين والغافلين، وشتان بين الشكور والكفور.
حيث إنَّ ذكر الله أربح بضاعة لك، وهي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون وفيها يتجرون وإليها دائماً يترددون (ابن القيم).
فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً* وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب 41ـ42).
فذكر الله هو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل من الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. والله أعلم (ابن القيم).
فبالذكر كان الصالحون يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم المصيبات.. إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنَّتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يريح القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، ويواصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكوراً (ابن القيم).
قال يحيى بن معاذ: يا غفول يا جهول، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمتّ شوقاً إلى مولاك.
وقال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنَّة إلا برؤيته.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أن أسبح الله تعالى أحبّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عزّ وجل". وقال عبيد بن عمير رضي الله عنه: "تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خير له من جبال الدنيا تجري معه ذهباً"؛ لأنَّ الله يقول: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت/45). ولذلك لما قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت على فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال صلى الله عليه: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزّ وجل".
ثم تأملي معي هذه الكلمات الغاليات من إحدى الصحابيات رضي الله عنهن، وهي تخبر عن عظة النبي لهن، إذ تقول: أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات. وقد كان الصالحون يتلذذون بذكر مولاهم عزّ وجل، فقال مالك بن دينار رحمه الله: "ما تنعَّم المتنعمون بمثل ذكر الله".
وقال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها" قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره.
ولقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الغافلين بتشبيه قبيح، فقال: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة"، وقال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت".
فالغفلة شبكة إبليس اللعين يوقع اللاهين عن ربهم تعالى.
قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سهى وغفل وسوس فإن ذكر الله تعالى خنس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!".
إنَّ هذا الدواء ـ يا أخيتي ـ وهو الذكر ـ يسير خفيف المحمل ثقيل في الميزان.
قال عبيد بن عمر رضي الله عنه: "إنَّ أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه وبخلتم على المال أن تنفقوه وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه؛ فأكثروا من ذكر الله عزّ وجل".
قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..} قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مرَّ بك من ذكر الله عزّ وجل فإذا قال نعم استبشر"، ويقول ابن القيم: "إنَّ في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله".
وذلك لأنَّ القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في الماء، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله.
واعلمي ـ أخيتي ـ أنَّ كتاب الله هو أفضل الذكر، فما ذكره الذاكرون بمثل قراءة كلامه.
من ثمرات الذكر:
1ـ الذكر يطرد الشيطان ويكسره.
2ـ الذكر سبب لرضا الله عزّ وجل.
3ـ الذكر يجلب للقلب الفرح والسرور.
4ـ الذكر يقوي البدن (عندما كانت فاطمة بنت محمَّد صلى الله عليه وسلم ـ ورضي عنها ـ تريد خادمة أرشدها الكريم صلى الله عليه وسلم إلى التسبيح والتكبير والتهليل).
5ـ الذكر ينوِّر القلب والوجه.
6ـ الذكر يجلب الرزق ويورث محبة الله للعبد.
7ـ الذكر سبب في ذكر الله تعالى للعبد (فإني ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي).
8ـ يشغل العبد عن الغيبة والنميمة.
9ـ الذكر سبب في البراءة من النفاق. قال كعب بن مالك: "من أكثر ذكر الله برئ من النفاق".
10ـ الذكر غراس الجنة.
11ـ الذكر سبب في تكثير الشهود يوم القيامة، فإنَّ البقاع التي يمر عليها الذاكر تشهد له يوم القيامة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
وكان أبوهريرة رضي الله عنه يسبح كل يوم اثنتي عشر ألف تسبيحة، ويقول: "أسبح بقدر ديتي". وتذكري ـ أخيتي ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون/9).
يقول صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أربع كلمات أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس".يقول ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: اللسان لا يعجز ولا يتعب، بل يبقى دائماً: لا إله إلا الله والحمد لله وسبحان الله والله أكبر، ويقول: إنَّ أحبَّ الكلمات إلى الله تلك الأربع، وهي أحبّ على النبي صلى الله عليه وسلم من كل الدنيا.. وهي أيضاً كلمات خفيفة، والناس اليوم يسافرون ويقطعون الفيافي والصحارى والمفاوز والمهالك.. من أجل أن يربحوا شيئاً قليلاً من الدنيا يتمتعون به وقد يحرمون إياه.. وهذه الأعمال العظيمة يتعاجز الإنسان عنها؛ لأنَّ الشيطان يكسله ويخذله ويثبطه عنها.. والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّها خير ممَّا طلعت عليه الشمس.
ولنفرض أنَّ عند الإنسان ملك الدنيا.. ثمَّ مات، ماذا يستفيد منها؟ لكن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات.. قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف/46). فينبغي أن نغتنم الفرصة بهذه الأعمال الصالحة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم.. يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدَّقون، فقال: "ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: "تسبحون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" وزاد مسلم فقال: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
قال الشارح رحمه الله (ابن عثيمين): هذا الحديث يدلّ على فضيلة الذكر المقيَّد بعمل.
فوائد هذا الحديث:
1ـ أنَّ الذكر نوعان: مطلق ومقيَّد.
2ـ حرص الصحابة على التسابق إلى الخير.
3ـ أنَّ هذا الذكر: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، مشروع خلف الصلوات، وقد ورد أنَّه تكمل المئة بقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهذه صفة من صفات الذكر بعد الصلاة، وهناك صفات أخرى منها: أن نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمساً وعشرين فيكون الجميع مئة. ومنها أن نقول سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين والله أكبر أربعا وثلاثين، فهذه مئة، ومن صفاته أن نقول سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات. نفعل هذا مرة وهذا مرة؛ لأنَّ الكل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4ـ ومن الفوائد أيضاً: سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم على المراجعة والمناقشة؛ لأنه يريد الحق أينما كان، والحق معه؛ لكي يطيب قلوب الناس ويبين لهم.
5ـ إنَّ الأغنياء من الصحابة كالفقراء حريصون على فعل الخير والتسابق فيه، ولهذا صنعوا صنع الفقراء، فصاروا يسبِّحون ويكبِّرون ويحمدون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين. وعن معاذ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: "يا معاذ والله إني لأحبك.." فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وفي دبر كل صلاة: هنا قاعدة:
أنَّ المذكور إن كان ذكراً فهو بعد السلام، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة/10)، وإن كان المذكور دعاء فإنه يكون قبل السلام وبعد التشهد هو دبر الصلاة. كذا قال ابن تيمية رحمه الله. وعلى هذا يكون حديث معاذ قبل السلام.
وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لمعاذ بن جبل، أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم أقسم أنه يحبه، والمحب لا يدخر لحبيبه إلا ما هو خير له، وإنما قال هذا له لأجل أن يكون مستعداً لما يلقى إليه؛ لأنه يلقيه إليه من محب.
فيا رب أعنا على ذكرك وكل قول يقرِّب إلى الله من تفكر وغيره.
وشكرك: أي شكر النعم واندفاع النقم. فكم من نعم الله علينا، وكم من نقمة اندفعت عنا، فنشكر الله على ذلك ونسأله أن يعيننا على حسن عبادته بأمرين لا يُقبل العمل إلا بهما: الإخلاص والمتابعة (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين).
فائدة من شرح رياض الصالحين:
"لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الدنيا؛ لأنَّ بها التبرؤ من الحول والقوة إلا بالله عزّ وجل، فالإنسان لا يتحوَّل من حال إلى حال ويقوى عليه إلا بالله، فهي كلمة استعانة إذا أعياك الشيء وعجزت عنه قل: "لا حول ولا قوة إلا بالله". وليست كلمة استرجاع كما يفعله بعض الناس إذا حصلت له المصيبة قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ولكن كلمة الاسترجاع: "إنَّا لله وإنا إليه راجعون".