علاج القلب فى اعمال الحج
** ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ **[الحج : 32
]المعاني الباطنة ووظيفة القلب في كل عمل من اعمال الحج
الزاد : فليطلبه من موضع حلال ، وإذا أحس من نفسه الحرص على استكثاره وطلب ما يبقى منه على طول السفر و لا يتغير و لا يفسد قبل بلوغ المقصد ، فليتذكر أن سفر الاخرة أطول من هذا السفر ، وأن زاده التقوى وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت ويخونه فلا يبقى معه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر فيبقى وقت الحاجة متحيرا محتاجا لا حيلة له، فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت ، بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير .
الراحلة : إذا أحضرها فليشكر الله بقلبه على تسخير الله عز وجل له الدواب لتحمل عنه الأذى وتخفف عنه المشقة ، وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة وهي الجنازة التي يُحمل عليها ،فإنّ امر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لن يكون زادا له لذلك السفر على ذلك المركب ؟ فما أقرب ذلك منه ، وما يدريه لعل الموت قريب ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل ، وركوب الجنازة مقطوع به ، وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه ، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه ويستظهر في زاده وراحلته ويهمل أمر السفر المستيقَن ؟
شراء ثوبي الإحرام : فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه ، فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل وربما لا يتم سفره إليه ، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفا في ثياب الكفن لا محالة فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلا مخالفا عادته في الزي والهيئة فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلا في زي مخالف لزي الدنيا وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن .
الخروج من البلد : فليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن متوجها إلى الله عز وجل في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا ، فليحضر في قلبه أنه ماذا يريد وأين يتوجه وزيارة من يقصد ؟ وأنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له الذين نودوا فأجابوا وشُوّقوا فاشتاقوا ، واستنهضوا فنهضوا وقطعوا العلائق وفارقوا الخلائق وأقبلوا على بيت الله عز وجل الذي فخم أمره وعظم شأنه ورفع قدره تسليا بلقاء البيت عن لقاء رب البيت إلى أن يرزقوا منتهى مناهم ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم ، وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالا بأعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال ولكن ثقة بفضل الله عز وجل ورجاء لتحقيق وعده لمن زار بيته وليرجُ أنه إن لم يصل إليه وأدركته المنية في الطريق لقي الله عز وجل وافدا إليه إذ قال جل جلاله ( ومنْ يخرجْ منْ بيتِهِ مهاجِرًا إلى اللهِ ورسولِهِ ثمَّ يدْركْهُ الموتُ فقدْ وقـَعَ أجرُهُ على اللهِ (100) النساء .
دخول البادية إلى الميقاتِ ومشاهدة تلك العقبات : فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات ، وليتذكر من هول قطاع الطريق هول سؤال منكر ونكير ، ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه ومافيه من الأفاعي والحيات ، ومن انفراده من أهله وأقاربه وحشة القبر وكربته ووحدته ، وليكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزودا لمخاوف القبر .
وأما الإحرام والتلبية من الميقات : فليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل ؛ فارجُ أن يكون مقبولا واخش أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك ، فكن بين الرجاء والخوف مترددا وعن حولك وقوتك متبرئا وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلا ، فإن وقت التلبية هو بداية الأمر وهي محل الخطر .قال سفيان بن عيينة : حج علي بن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له : لم لا تلبي ؟ فقال : أخشى أن يقال لي لا لبيك و لا سعديك ، فلما لبّى غشي عليه ووقع عنراحلته ، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه ، فليتذكر الملبّي عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله عز وجل إذ قال : ( وأذِّنْ في النّاسِ بالحجِّ (27) الحج .ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبوروازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله سبحانه ومنقسمين إلى مقرَّبين وممقوتين ، ومقبولين ومردودين ، ومترددين في أول الأمر بين الخوف والرجاء تردد الحاج في الميقات حيث لا يدرون أيتيسر لهم اتمام الحج وقبوله أم لا ؟ .
أما دخول مكة : فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنا وليرجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل وليخش أن لا يكون أهلا للقرب ، فيكون بدخوله الحرم خائبا ومستحقا للمقت ، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبا ؛ فالكرم عميم ، والرب رحيم ، وشرف البيت عظيم ، وحق الزائر مرعي ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيَّع .
وأما وقوع البصر على البيت : فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه ، وارجُ أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم ، واشكره تعالى على تبليغك إياك هذه الرتبة وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه ، واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة ، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين انقسام الحجاج إلى مقبولين ومردودين .
وأما الطواف بالبيت : فاعلم أنه صلاة ؛ فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله ، ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت ، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لا تبتديء الذكر إلامنه و لا تختم إلا به كما تبتديء الطواف بالبيت وتختم بالبيت.
أما الاستلام : فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته ، فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك فمن غدر في المبايعة استحق المقت ، وقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحجر الأسود يمين اللهِ عز وجل في الأرض يصافح بها خلقـَه كما يصافح الرجلُ أخاه ) أخرجه أبو داوود .
وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم : فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت وتبركا بالمماسة ورجاء للتحصن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت ، ولتكن نيتك في التعلق بالسترالإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه عنه ، المُظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه و لا مفزع له إلا كرمه وعفوه ،وأنه لا يفارق إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل.
أما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت : فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا مرة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد ؟فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى ، وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة ، وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات ، وليتذكر تردده بين الكفتين ناظرا إلى الرجحان والنقصان مترددا بين العذاب والغفران .
وأما الوقوف بعرفة : فاذكرــ بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات واتباع الفرَق أئمتهم ــ عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة واقتفاء كل أمة نبيها وطمعهم في شفاعتهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول ، فإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقق رجاءك بالإجابة، فالموقف شريف والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق ،الذين اجتمعت هممهم وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم وامتدت إلى أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة فلا تظنن أنه يخيب أملهم ويضيع سعيهم ، ولذلك قيل : إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له ، وكأن اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد على صعيد واحد هو سر الحج وغاية مقصوده .
وأما رمي الجمار : فاقصد به الانقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية وانتهاضا لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه ، ثم اقصد به التشبه بإبراهيم حيث عُرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية ، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأمله ،فإن خطر لك ــ أن الشيطان عُرض له فشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان ؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشطان وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عننفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان ، واعلم انك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيما له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه .
وأما ذبح الهدي : فاعلم أنه تقرب إلى الله تعالى بحكم الامتثال ؛ فأكمل الهدي وارجُ أن يعتق الله بكل جزء منه جزءًا منك في النار.
وأما زيارة المدينة : فإذا وقع بصرك على حيطانها فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم .... فإذا بلغت المسجد فاعلم أنه يبلغه سلامك وصلاتك ...** ولنا تأملات في ( المعاني الباطنة في زيارة المدينة وزيارة الرسول عليهالسلام) في موضوع منفرد . .**
]فإذا فرغ الحاج من اعمال الحج كلها فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف وأنه ليس يدري أقبل منه حجه وأثبت في زمرة المحبوبين أم رُدّ حجه وألحق بالمطرودين ؟ وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله فإن صادف قلبه قد ازداد تجافيا عن دار الغرور وانصرافا إلى دار الأنس بالله تعالى ، ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع فليثق بالقبول؛ فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه ؛ ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله ،فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول ، وإن كان الأمر بخلافه فيوشك أن يكون حظه من سفره : العناء والتعب نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك ، وما كان من خطإ أو سهو
أو تقصير فمن نفسي ومن الشيطان فاغفر لي وارحمني
والحمد لله رب العالمين
]المصدر : كتاب إحياء علوم الدين