السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسن الخاتمة وسوء الخاتمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
أولاً : حسن الخاتمة
حسن الخاتمة هو : أن يوفق العبد قبل موته للبعد عما يغضب الله سبحانه وتعالى ، والتوبة من الذنوب والمعاصي ، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير ، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة ، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((
إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله )) قالوا : كيف يستعمله ؟ قال : (( يوفقه لعمل صالح قبل موته )) [ رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك ]
ولحسن الخاتمة علامات منها ما يعرفه العبد المحتضر عند احتضاره ، ومنها ما يظهر للناس . أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلاً منه تعالى ، كما قال جل وعلا : [ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا و ابشروا بالجنة التي كنتم توعدون ] [ فصلت : 30 ] . وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم ، وفي قبورهم ، وعند بعثهم من قبورهم . ومما يدل على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم في (( صحيحيهما )) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه )) فقلت : يا نبي الله ! أكراهية الموت ، فكلنا يكره الموت ؟ فقال (( ليس كذلك ، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله ، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه )) .
وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلاًم : (( ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته ، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها ، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة )) ، وقال : (( ومما يبين ذلك أن الله عاب قوماً بحب الحياة فقط فقال : [ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ] [ يونس : 7 ] )) .
وقال الخطابي : (( معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا ، فلا يجب استمرار الإقامة فيها ، بل يستعد للارتحال عنها ، والكراهية بضد ذلك )) . وقال الإمام النووي رحمه الله : (( معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعاً هي التي تقع عند النزاع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة ، حيث ينكشف الحال للمحتضر ، ويظهر له ما هو صائر إليه )) .
أما عن علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة ، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك ، ونحن نورد هنا بعضاً منها :فمن ذلك : النطق بالشهادة عند الموت ، ودليله ما رواه الحاكم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) .
ومنها : الموت برشح الجبين ، أي : أن يكون على جبينه عرق عند الموت ،لما رواه بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( موت المؤمن بعرق الجبين )) [ رواه أحمد والترمذي ] . ومنها : الموت ليلة الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر )) .
ومنها : الاستشهاد في ساحة القتال في سبيل الله ، أو موته غازياً في سبيل الله ، أو موته بمرض الطاعون أو بداء البطن كالاستسقاء ، ونحوه ، أو موته غرقاً ، ودليل ما تقدم ما رواه مسلم في صحيحه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات في البطن فهو شهيد ، والغريق شهيد )) . ومنها : الموت بسبب الهدم ، لما رواه البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال : (( الشهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغرق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله )) .
ومن علامات حسن الخاتمة ، وهو خاص بالنساء : موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو وهي حامل به ، ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن الشهداء ، فذكر منهم : (( والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة )) يعني حبل المشيمة الذي يقطع عنه
ومنها : الموت رباطاً في سبيل الله ، لما رواه مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفّتان )) . وما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( من قُتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قٌتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد )). ومن أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن وحرس الحدود براً وبحراً وجواً على اختلاف مواقعهم إذا احتسبوا الأجر في ذلك
فهذه نحو عشرين علامة على حسن الخاتمة عُلمت باستقراء النصوص ، وقدّ نبَّه إليها العلاَّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه القيم ( أحكام الجنائز ) . واعلم أخي الكريم أن ظهور شيء من هذه العلامات أو وقوعها للميت ، لا يلزم منه الجزم بأن صاحبها من أهل الجنة ، ولكن يستبشر له بذلك ، كما أن عدم وقوع شيْ منها للميت لا يلزم منه الحكم بأنه غير صالح أو نحو ذلك . فهذا كله من الغيب
أسباب حسن الخاتمة من أعظمها : أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه ، ورأس ذلك وأساسه تحقيق التوحيد ، والحذر من ارتكاب المحرمات ، والمبادرة إلى التوبة ، وأعظم ذلك الشرك كبيره وصغيره . ومنها : أن يلح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى . ومنها : أن يعمل الإنسان جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه ، وأن تكون نيته وقصده متوجهة لتحقيق ذلك ، فقد جرت سنة الكريم سبحانه أن يوفق طالب الحق إليه ، وأن يختم له به
ثانياً : سوء الخاتمة
أما الخاتمة السيئة فهي : أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه جل وعلا ، مقيم على مساخطة الله سبحانه وتعالى ، مضيِّع لما أوجب الله عليه ، ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة ، طالما خافها المتقون ، وتضَّرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنِّبهم إياها . وقد يظهر على بعض المحتضرين علامات أو أحوال تدل على سوء الخاتمة ، مثل النكوب عن نطق الشهادة _ شهادة أن لا إله إلا الله _ ورفض ذلك ، مثل التحدث في سياق الموت بالسيئات والمحرمات وإظهار التعلق بها ، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تدل على الإعراض عن دين الله تعالى والتبرم لنزول قضائه . ولعل من المناسب أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك
فمن الأمثلة : ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله ( في كتابه : الجواب الكافي ) أن أحد الناس قيل له وهو في سياق الموت : قل لا إله إلا الله ، فقال : وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة ؟ ولم يقلها . ونقل الحافظ ابن رجب رحمه الله ( في كتابه : جامع العلوم والحكم ) عن أحد العلماء ، وهو عبد العزيز بن أبي روِّاد أنه قال : حضرت رجلاً عند الموت يٌلقَّن لا إله إلا الله ، فقال في آخر ما قال : هو كافر بما تقول . ومات على ذلك ، قال : فسألت عنه ، فإذا هو مدمن خمر ، فكان عبد العزيز يقول : اتقوا الذنوب ، فإنها هي التي أوقعته . ونحو هذا ما ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله أن رجلاً كان يجالس شرَّاب الخمر ، فلما حضرته الوفاة جاءه إنسان يلقنه الشهادة فقال له : اشرب واسقني . وذكر الحافظ الذهبي رحمه الله أيضاً ( في كتابه : الكبائر ) أن رجلاً ممن كانوا يلعبون الشطرنج احتضر ، فقيل له : قل لا إله إلا الله ، فقال : شاهك . ثم مات ، غلبت على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب ، فقال عِوض عن كلمة التوحيد : شاهك . ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله عن رجل عرف بحبه للأغاني وترديدها ، فلما حضرته الوفاة قيل له : قل لا إله إلا الله ، فجعل يهذي بالغناء ويقول : تاتنا تنتنا . . حتى قضى ، ولم ينطق بالتوحيد
وقال ابن القيم أيضاً : أخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده ، وجعلوا يلقنوه لا إله إلا الله وهو يقول : هذه القطعة رخيصة ، وهذا مشترٍ جيد ، هذا كذا . حتى قضى ولم ينطق بالتوحيد . نسأل الله العافية والسلامة من كل ذلك . وها هنا تعليق للعلامة ابن القيم رحمه الله نورد ما تيسر منه ، حيث عقَّب على بعض القصص المذكورة آنفاً ، فقال (( وسبحان الله ، كم شاهد الناس من هذا عبراً ؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم ، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه و قوته وكمال إرادته ، قد تمكن منه الشيطان ، واستعمله فيما يريده من معاصي الله ، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى ، وعطَّل لسانه عن ذكره ، وجوارحه عن طاعته ، فكيف الظن به عند سقوط قواه ، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع ؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته ، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته ، فإن ذلك آخر العمل ، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت ، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال ، فمن ترى يسلم على ذلك ؟ فهناك : [
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ] [ إبراهيم :27 ] ، فكيف يوفَّق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطاً ؟ فبعيد من قلبه بعيد عن الله تعالى غافل عنه ، متعبد لهواه ، أسير لشهواته ، ولسانه يابس من ذكره ، وجوارحه معطلة من طاعته ، مشغلة بمعصيته _ بعيد أن يوفق للخاتمة بالحسنى )) . أ . هـ
وسوء الخاتمة على رتبتين _ نعوذ بالله من ذلك : أما الأولى وهي العظيمة الشنيعة ، فهي أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله : إما الشك وإما الجحود ، فتقبض الروح على تلك الحال وتكون حجاباً بينه وبين الله ، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلّد . والثانية وهي دونها ، أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها المحرمة ، فيتمثّل له ذلك في قلبه ، والمرء يموت على ما عاش عليه ، فإن كان ممن يتعاطون الربا فقد يختم له بذلك ، وإن كان ممن يتعاطون المحرمات الأخرى من مثل المخدرات والأغاني والتدخين ومشاهدة الصور المحرمة وظلم الناس ونحو ذلك فقد يختم له بذلك ، أي بما يظهر سوء خاتمته والعياذ بالله ، ومثل ذلك إذا كان معه أصل التوحيد فهو مخطور بالعذاب والعقاب
أسباب سوء الخاتمة
وبهذا يُعلم أن سوء الخاتمة يرجع لأسباب سابقة ، يجب الحذر منها . ومن أعظمها : فساد الاعتقاد ، فإن من فسدت عقيدته ظهر عليه أثر ذلك أحوج ما يكون إلى العون والتثبيت من الله تعالى . ومنها : الإقبال على الدنيا والتعلق بها . ومنها : العدول عن الاستقامة والإعراض عن الخير والهدى . ومنها : الإصرار على المعاصي وإلفها، فإن الإنسان إذا ألف شيئاً مدة حياته و أحبه وتعلق به ، يعود ذكره إليه عند الموت ، ويردده حال الاحتضار في كثير من الأحيان
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله : (( إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت ، مع خذلان الشيطان له ، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان ، فيقع في سوء الخاتمة ، قال تعالى : [
وكان الشيطان للإنسان خذولاً ] [ الفرقان :29 ]
وسوء الخاتمة _ أعاذنا الله منها _ لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله تعالى ، وصدق في أقواله وأعماله ، فإن هذا لم يسمع به ، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً ، وظاهره عملاً ، ولمن له جرأة على الكبائر ، وإقدام على الجرائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل توبته )) . أ . هـ .
أخي الكريم : لأجل ذلك كان جديراً بالعاقل أن يحذر من تعلق قلبه بشيْ من المحرمات ، وجديراً به أن يُلزم قلبه ولسانه وجوارحه ذكر الله تعالى ، وأن يحافظ على طاعة الله حيثما كان ، من أجل تلك اللحظة التي إن فاتت وخٌذل فبها شقي شقاوة الأبد
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أعمارنا أواخرها ، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه ، اللهم وفَّقنا لفعل الخيرات واجتناب المنكرات . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه