حسن معاملة الجار
الإمام العلامة علي جمعة
كان مجتمع المدينة قائما على تعدد الأديان والأعراق والطوائف، ولم يكن سكان المدينة يوما أبناء دين واحد في ذلك الوقت، وإنما تنوعت أديانهم بين مسلمين ويهود ومشركين، ولكن جمعتهم الدولة الإسلامية في بوتقة المواطنة، فالإسلام والمسلمون لا يعترفون أو يقرون بمسألة تطهير الأرض وتوحيد الدين وإكراه الناس على الدخول في دينهم أو الرحيل من أرضهم، وهذه سنة الله في خلقه، وقد أشار القرآن الكريم إلي التنوع الديني فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، ونبه إلي تعدد الأعراق والشعوب فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] كذلك أمر بعدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام، فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
إن التعايش السلمي الذي يدعو إليه الإسلام يؤدي بدوره إلي تبادل المصالح والأفكار والمنافع وتقوية العلاقات مع الآخر، وقد كان الأمر على هذا الحال منذ فجر الإسلام بين المسلمين وغيرهم، حيث جعل الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على أسس إيمانية مبنية على قيمة السلام، وبعيدة عن صفة العنف والطغيان.
وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النموذج في التعامل مع غير المسلمين بالحسنى، فكان يحسن حوارهم، ويؤدي إليهم حقوقهم، ويدعو إلى حسن معاملتهم في الأمور اليومية، في إطار من الرحمة وحفظ كرامة الإنسان.
ومن صور الإحسان في معاملتهم: عيادة مريضهم، إذ لا بأس بعيادة أهل الذمة وغير المقاتلين من الكفار، لأنه -كما قال الإمام الزيلعي- نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا مرض بجواره. (نصب الراية 6/177) وهو ما رواه البخاري أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطلع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار (البخاري 5/378).
ومن حسن معاملة الآخر أيضا: إفشاء السلام بينهم، ففيه من البر في حقهم ما يؤلف قلوبهم، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (البخاري4/1663).
قال القرطبي: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه، وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه. فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام. (تفسير القرطبي 11/103).
ومن صور حسن الجوار كذلك: التعامل التجاري مع الآخر، فقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ازدهار الحالة الاقتصادية في دولة المدينة، فلم يمنع التعامل مع غير المسلمين في البيع والشراء وغيرهما من المعاملات التجارية، ومن تلك المعاملات التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه مع غير المسلمين أنه رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي، مقابل أنه أخذ لأهله منه شعيرا، ومات ودرعه مرهونة عنده.
ولم يمنع الرسول المسلمين من الذهاب إلي أسواق أهل الكتاب والمتاجرة معهم، فبدأ التبادل التجاري بينهم، حيث امتلأت أسواق اليهود في المدينة بالمسلمين، ولا يخفى على عاقل أن المعاملات التجارية اليومية لا تتم إلا في ظل التعايش السلمي الذي حض عليه الإسلام، وآية ذلك أن المرأة المسلمة كانت تذهب بنفسها لتشتري من اليهود في سوقهم دون حرج، مما يدل على حالة الأمن والأمان السائدة في ربوع المدينة.
ومما يؤكد ذلك المنحى: أن المسلمين كانوا يشترون الماء من بئر رجل يهودي من بني غفار يقال له رومة حتى اشتراها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ووهبها للمسلمين، وذلك طاعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين (البخاري 2/829).
ومن حسن الجوار مع الآخر أيضا: العمل على الإصلاح بين المتخاصمين والمتشاجرين دون تفريق على أساس الدين أو العرق، لتصفو النفوس وتستقر الأمور بين أبناء المجتمع الواحد، روى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فأغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا (البخاري 4/1663).
إن الإسلام وهو يشيع هذه الأخلاق الفاضلة ليحافظ على الوحدة بين طوائف المجتمع بمختلف مذاهبهم ومشاربهم، وقد تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم ممن خرج يريد زرع بذور الفتنة والفرقة بين أفراد المجتمع، فقال: ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا ينحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه (مسلم 3/1476).
فالدولة الإسلامية قامت على أساس قوي من حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين، دون النظر إلي اختلاف الديانات والعرقيات، كما أكدت على ترسيخ مفاهيم التسامح والوحدة، والدعوة إلى نشر المقاصد والقيم المشتركة بين بني الإنسان، ومن ذلك حب الجار والبر به.