استفتى قلبك
رسمت منهج حياة لم أكن قد جاوزت العاشرة يومها
يوم أن كان الناس يسخرون مني لما يسمونه بـ ( التعقد )
كانوا لا يألون جهدا في إقناعي بما لديهم
من أفكار وآراء وفتاوى ليست من الدين
فتارة أنت غبية وتارة معقدة وتارة أخرى يقولون : ( عيشي حياتك )
فلما لم تجدِ معهم هذه الكلمات عمدوا إلى الإقناع والحوار
فلا تكاد تراني في جلسة معهم أو معهنّ بالأصح إلا
والكل يحاول إقناعي بعبارات وكلمات لا تدخل لي من جوف
والأحداث تتوالى وما أكثرها
وفي أحدها أنني سلّمت على امرأة ولم أسلّم على زوجها فبدأوا يقولون :
عيب , احترام , بعمر جدك , بعمر والدك , اذهبي وسلّمي ...
فلما لم أذهب وأصررت على أنه حرام حتى لو كان عمره ألف سنة
قالوا لي يوجد من الشيوخ من أفتى أنه يجوز أن تسلّمي على الرجل إذا كان كبيرا
لم تنزل والله في جوفي ولم أكد أسيغها
وبقيت على إصراري : الدين لم يبح هذا فكيف يأتي فلان ويبيحه , لن أسلّم
ثم قالوا لي بعض الشيوخ أفتوا أنه يجوز أن تسلمي على رجل
بحائل أي ويداك مغطاة لذلك لا بأس ارتدي القفازات وسلّمي
تقبلت الكلام وقلت ربما يكون صحيحا لكن فكرت
قليلا فلم أتجرعها ثم لم أسلّم لا بحائل ولا بغيره
ثم قالوا لي يجوز إذا كان للمرة الأولى وهو لا يعلم لأنك لو
لم تسلمي سيكون هناك إحراج فمن باب الحياء عليك أن تسلّمي
قالت لي نفسي الله أحق أن يستحيى منه فلا
تسلّمي لا في المرة الأولى ولا في المرة العاشرة
هذا هو الدين !
فلما استيأسوا خلصوا نجيا
ثم جاؤوا لحجابي وجلبابي ..
قالوا لي الجلباب ليس واجبا لقد أفتى بعض الشيوخ
أنه يجوز أن تلبسي بنطالا واسعا والمهم هو السترة
قلت أين السترة في ما لا يرضي الله ,
الله قال : وليدنين عليهن من جلابيبهن
وهذا الجاهل يقول وليلبسن بناطيلهن !
سبحانك ربي
ولم أفعل وبقيت بالجلباب
ثم قيل لي الحجاب ليس بالضرورة
أن يكون هكذا يكفي أن يغطي الرأس
وبقي أمام عيني قول الله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ..
والأحداث بعد ذلك تتوالى والشتائم تنهال والسخرية
تزداد ولم أكن يومها على العلم الذي أعلمه الآن بيد
أني كنت على الصغر أعمل بقول رسول الله : استفت قلبك
إي والله استفتيت قلبي فأجابني بما يرضي ربي
ولم يكن يغيب عني يومها قول الحبيب صلى الله عليه وسلم :
الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ
فَمَنْ تَرَكَ مَا تَشَابَهَ كَانَ أَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ
هذا ما تذكرته اليوم حين وقعت في موقف مشابه
جاءتني الفتاوى من كل حدب وصوب في مسألة
لم أسغها ولم أتجرعها والكل كان ضدي يقول :
العلماء قالوا والمشايخ أفتوا
انتابني همّ وأنا أقول في نفسي يا بشر
رب العزة قال حرام أفتأتون أنتم وتقولون حلال
فجعلوا يقولون هو حلال إذا .. وبِـنيّة كذا ..
فصرت أشتهي أن أكوي لسان من يقول
: ( حلال إذا ) بغير علم ولا برهان
فلما عدت للدار ولازالت الأفكار تتردد
عليّ لا تفارقني وأنا لا أجد لها مردا
راجعت أقوال العلماء بين محلل ومحرم ولم أطمئن لمن حلل
واطمأننت للآخر ولكن هجمة القوم علي
توهم أنني ومن حرم من العلماء على جهل
قلت أسأل , لكن من ؟!
فلما لم أجد من حولي إلا كل مسوّغ لمنكر ازددت همّا على همّ
وكنت قد أخذت عهدا ألا أسوّغ لمنكر ولا أسمع لمن يسوّغ
وازداد إصراري لما تذكرت تسويغ الناس لي في الصغر
على منكر خلع الجلباب والسلام على الأجانب وإتيانهم
بالحجج إذ كل كل حجة أكبر من أختها , ولكن هيهات
ولازال بي هذا الهم حتى خطر على بالي خاطر قال لي استفت قلبك
فلما استفتيته اطمأننت وسكنت وهدأت نفسي
وقلت : سبحان الذي بعثك بالحق والله ما نطقتَ عن هوى عليك صلاة ربي
ورغم أنني كنت في الصغر أجهل الكثير من المسائل
لكنني كنت آخذ بكلام العلماء الثقاة ولا ألقي بعد ذلك
بالا لما يقال فلا أسوّغ لهوى قلبي ولا أضع حجة لمنكر
ولم أكن أقول كما يقول الكبار
الآن ممن ينتهز فرصة التسويغ للمنكر
حتى إذا عرض عليهم كلام الله وكلام عباد
الله أخذوا بكلام العباد وتركوا كلام رب العباد
ومظاهر التسويغ للمنكر كثيرة هذه الأيام لا نكاد نحصيها
فإنها إذ كثرت الأهواء كثر معها شيوخ السلطان
وكثر معها شيوخ العامة وشيوخ الدنيا لا الدين
حتى قال قائل يوما : يجوز أن تهجر القرآن
والله لو وزن هذا الكلام بميزان حديدي صَدِئ ما وزَنَـه
ولا يخفى عليكم أن الناس قد جعلوا النية علّاقة كل منكر
فكلما ارتكبوا منكرا سوّغوا له بقولهم :
النية صافية , النية حسنة , المهم هو النية ...
أي نية هذه ؟ , أيزني الزاني ويقول نية ؟
وما أكثر مظاهر الزنا بالعين واليد واللسان
حتى ما تورع الرجال أن ينادوا النساء
بألفاظ رقيقة ثم يقولون : إنما الأعمال بالنيات
وبعد أن رأيت ذلك عيانا كان لزاما علي أن أبين
وأوضح بطلان هذه الحجة وبطلان النية
الصالحة إذا قرنت بمنكر وألا حجة لهذا الاستدلال
إذ النية الصالحة لا تقبل إلا إذا قرنت
بعمل صالح حتى يؤجر عليها صاحبها
- فلا اعتبار لمن يريد أن يساعد عائلة فقيرة فيسرق ليساعدها ! -
والعمل الصالح لا يقبل إلا إذا قرن
بنية صالحة حتى يؤجر عليه صاحبه
- فلا أجر يكتب لمن ينفق أمواله في مساعدات
أو ما شابه وهو ينوي بها شهرة ورياء وسمعة -
ولا يوجد شيء اسمه آتي بالمنكر خالصا فأثاب
عليه إذ المنكر في كل حالاته يلحق بصاحبه الإثم
ويدل على ذلك :
(( التَّبْوِيب يَتَعَلَّق بِالْآيَةِ وَالْحَدِيث مَعًا
لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاء ثُمَّ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين } .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة فِي قَوْله تَعَالَى
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا }
قَالَ وَصَّاهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَته .
قَوْله : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ )
كَذَا أُورِدَ هُنَا ، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَة الْجَمْع بِالْجَمْعِ
أَيْ كُلّ عَمَل بِنِيَّتِهِ . وَقَالَ الْخُوبِيّ كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ
إِلَى أَنَّ النِّيَّة تَتَنَوَّع كَمَا تَتَنَوَّع الْأَعْمَال كَمَنْ قَصَدَ
بِعَمَلِهِ وَجْه اللَّه أَوْ تَحْصِيل مَوْعُوده أَوْ الِاتِّقَاء لِوَعِيدِهِ
وَلِأَنَّ النِّيَّة تَرْجِع إِلَى الْإِخْلَاص وَهُوَ وَاحِد لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيك لَهُ )) . اهـ
فتح الباري
وهنا وقفة : فلما كان صلاح النية مقرونا بالإخلاص
وبقوله تعالى :
" ليعبدوا الله مخلصين "
انقطعت كل حجة على من يجعل النية الصالحة في المنكر
لأن الإخلاص لا يكون في المنكر
بل يكون الإخلاص في عبادة الله وحده
فلا يخلص السارق لوجه الله ولا يخلص الوثني ولا الكافر
إذ النية الصالحة مع المنكر باطلة لا يقبل
فيها شيء بل هي حجة على صاحبها
وأما النية الفاسدة فهي تلحق الإثم بصاحبها في ظعنه وإقامته
ولو بدا للناس أن العمل صالح
- كمن يعطي الدواء لمريض يقصد به موته
فالدواء شفاء في الظاهر لكن زيادته مثلا تسبب كذا وكذا
ومن تعمد ذلك الضرر باطنا وأظهر للناس حسن عمله فهو منافق
ولازلت أقتفي الأثر الذي كنت عليه وأسأل الله أن أثبت
على الحق فيه ثم يُختم لي بخير .. أسأل الله ذلك
وأختم بالحديث الذي يحق له أن يتخذ منهج حياة :
عن وابضة بن معبد رضي الله عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم. قال:
" استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب
والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر
وإن أفتاك الناس وأفتوك " مما راق لى