( قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ . قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ . فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ . قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ . قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ )[ طه : 65 ـ76]
إنه موقف رائع يهزّ القلوب بالإيمان الحق الذي يعلو فوق مُتع الدنيا وفواجعها وسلطانها من خوف وضعف ، وشهوات وهوى .
لم يستغرق الموقف أكثر من تلك اللحظات التي أدرك فيها السحرة أن ما أتى به موسى عليه السلام ليس بسحر ، وهم أعرف الناس بالسحر ، وأن ما جاء به موسى عليه السلام هو الحق من عند الله ، فوقعوا ساجدين خاشعين مؤمنين بهذا الحق الذي رأوه وعرفوه وصدّقوه . إنه إيمان لا يتزعزع ولا يتردّد ، فلم يصدّهم عنه ما كانوا فيه من نعم الدنيا وزخارفها في ظل حكم فرعون ، ولم يصدهم عنه ما هدّدهم فرعون به تهديداً مرعباً خطيراً : [ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ]!
إنه تهديد مرعب مفزع صادر من فرعون الذي هو قادر على أن ينفّذ تهديده لهم بهذا العقاب المرعب .
ولم تعد تفتنهم زخارف الحياة الدنيا الكثيرة التي كانوا يجدونها في ظل حكم فرعون : " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ " انفصال حقٌّ كامل عن زخارف الحياة الدنيا ومتعها ومصالحها الزائلة ، وإقبال حقٌّ على الدار الآخرة ، إقبـالُ إيمان ويقين لا يعتوره ضعف من شكّ أو ريبة ! تركوا الدنيا كلها ومباهجها كلها ، وزخرفها كله ، وفتنة النفوذ والسلطان ، وما كانوا فيه من مظاهر القوة الدنيوية الزائلة ، تركوا ذلك كله في لحظة غُرِس في قلوبهم الإيمان فعرفوا فتنة الدنيا وتفاهتها وقلة شأنها ، أمام نعيم الآخرة ! في لحظة سريعة عرفوا الحق فقرروا والتزموا جانب الله سبحانه وتعالى : " ... وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ " وعرفوا حقيقة الدار الآخرة وما فيها من عذاب شديد للكافرين ، ونعيم خالد للمتقين : " . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ "
لا بد أن نلاحظ هنا قوة التعبير : " .. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ... " ، فإن كلمة قد تفيد معنى التأكيد والتحقيق . ليكون الإيمان الصادق مرتبطاً بالعمل الصالح ارتباط حق وتأكيد لا ريب فيه .
والأمر كله متعلّق بالله سبحانه وتعالى فله الأمر كلَّه . فانظر إلى هذا التعبير : " فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ " ! إنه فضل الله عليهم عندما عرف في قلوبهم الصدق فرزقهم حلاوة الإيمان واليقين وثبّتهم عليه ، وألقاهم ساجدين لله عارفين فضله ونعمته عليهم .
ولو رجعنا إلى الآيات الكريمة السابقة لهذه الآيات ، لرأينا كيف أن السحرة كانوا في حالة يقين وتأكّد من سحرهم الباطل ، حتى اعتبروا موسى وهارون ساحرين أيضاً يعملون بالسحر ، وظنّوا أنهم الغالبون بسحرهم . وعميت أبصارهم حينذاك عن قول موسى عليه السلام لهم : " قَالَ لَهُمْ مُوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ " ! إنها دعوة صريحة للإيمان بالله وعدم الافتراء والكذب . فاختلفوا عند ذلك وتنازعوا أمرهم ، وأخذوا يتناجون سرّاً : " فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ " . ثم قالوا :" قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ۚ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ "
هكذا كانت قناعتهم الثابتة من أن موسى عليه السلام ساحر يعمل بالسحر مثلهم ، فالصراع إذن بين سحر وسحر ، ويعتقدون أن طريقتهم في السحر هي الطريقة المثلى . لقد كان ميزانهم هو الدنيا ومصالحها .
هكذا كانت حالتهم النفسية وقناعتهم الفكرية ، وهذا هو الجوّ الذي كان مسيطراً عليهم كلَّ السيطرة . فمن هذا الجو المسيطر عليهم ، ومن هذه القناعة الثابتة في نفوسهم ، تحرّروا بفضل من الله عليهم بعد أن عرفوا أن ما جاء به موسى ليس بالسحر ، وهم أعلم الناس بالسحر وخداعه وكذبه . لقد رأوا الحقَّ ظاهراً في عمل موسى عليه السلام ، ساطعاً ، قويّاً ، لا يقترب من السحر ولا من أجوائه . وكأن البيّنات في عمل موسى عليه السلام اقتلعتهم من الأجواء التي كانوا فيها وكشفت لهم الحق ، فآمنوا بفضل الله عليهم ، وأُلْقُوا ساجدين خاشعين لله .
إنها نقلة عظيمة ، نُقلة من عالم الشرك والكفر والسحر ، من عالم فرعون وظلمه وضلاله ، إلى إشراقة الحق والإيمان واليقين ، اليقين الذي هجروا فيه متاع الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها ، ولم يعد يصدّهم التهديد والتخويف بالقتل والصلب والعذاب الشديد ، وأقبلوا على الآخرة إقبال صدق ويقين !
ويُخيّل إليّ أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا مثل هذا الإيمان ، ونزعوا من قلوبهم الدنيا وأقبلوا على الآخرة ببذلهم الممتد وجهادهم الصادق ، إلا من ضعف منهم فأراد الدنيا ، كما قال سبحانه وتعالى عنهم ...ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ... ) [ آل عمران :152]
ولما علم الله أن في قلوب أولئك من الصحابة رضي الله عنهم صفاء الإيمان أنزل نصره عليهم ، وأمدّهم بعونه.
ألسنا نحن المسلمين اليوم بحاجة إلى مثل هذا الإيمان ، وإلى نقلةٍ مثل هذه النقلة ؟! لو نظرنا في واقع المسلمين اليوم لرأينا أن الدنيا غلبت الكثيرين ، وأن الهوى غالب عليهم كذلك ! فمن أين يأتي النصر ؟!
إن الله يقضي بالحق ولا يظلم الناس شيئاً ولا يظلم أحداً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[ غافر :20]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ يونس :44]
يمر المسلمون في هذه المرحلة بمذلة وهوان وضعف ، جعلتهم عالة على أعدائهم يستنصرونهم على بعضهم بعضاً ، فيتمزّقون شيعاً وأحزاباً ، ودولاً وأقطاراً وحدوداً ، ومصالح وأهواء ، فيضعف الجميع !
فعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذٍ ؟! قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله في قلوبهم الوهن . فقال قائل : يا رسـول الله ! وما الوهن ؟! قال حبَّ الدنيا وكراهية الموت " [ أبو داود :31/5/4297]
وما هو المخرج من ذلك الوهن والهوان ؟! إنه في قوله سبحانه وتعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) [ الذاريات :50]
إنه في نقلة عظيمة كما انتقل السحرة عندما رأوا الحق فآمنوا وتابوا وأقبلوا على الآخرة إِقْبال حَقٍّ ويَقين .